(يسمي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه، ووصفه بأيسر صفاته، ووزنه بأخفّ الموازين؛ وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية، تبعدُها عن الحقائق العليا، وتنزل بها إلى المراتب الدنيا، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضا ...
ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير؛ إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا، وتفصيلُها على مقاييسها، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق، والرجاء في الله على وزن الرجاء في غيره، ودعاؤه كدعاء الناس، والتوكّل كالتوكّل، والقرب كالقرب، والعلاقات كالعلاقات، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة، فدخلت معها معاني الإشراك، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها، فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر، ولم
يهذّب الصوم النفوس، ولم يكفكف من ضراوتها، ولم يزرع فيها الرحمة، ولم يغرها بالإحسان.
ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن، وآيات الأكوان؛ لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله - وهي العبادات -، وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به، ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف؛ فمن وحّد الله حق توحيده؛ قدره حق قدره، فعرفه عن علم، وعبده عن فهم، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا، وإن كانت الألفاظ واحدة ...
أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة، ينضحها بالرحمة، وينفح عليها بالرّوح، ويخزها بالمواعظ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة، وطراوة وخضرة، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا؛ ليكون ربيعًا للنفوس، متنقلاً على الفصول، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة.
إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير، ويسكنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقها من أسر العادات، ويحرّرها من رقّ الشهوات، ويجتثّ منها فساد الطباع، ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر، ومثبّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه.
هو مستشفى زمانيّ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية).
(وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين؛ اقتصارٌ على ما يحقّق معناه الظاهري الذي تُناط به الأحكام بين الناس، وتظهر الفروق، فيقول الفقيه: هذا مجزئ، وهذا غير مجزئ، ويقول العامي: هذا مفطر، وهذا صائم، وأما حقيقة الصوم الكامل التي يُناط بها القبول عند الله؛ فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضا؛ من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأيْمان غموس وخوض في الأعراض، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة. فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة.
وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة، وفي مفهومه شرعًا، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول، مثل: " رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش "، ومن اللطائف القرآنية أن الله - تعالى - وصف المغتاب بأنه: (يأكل لحم أخيه)، وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان، وكفى به شناعة، وبأنه ميت، والميت يذكّر بالميتة، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير.
أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم؛ مثل سرعة الغضب والانفعال، واللجاج في الخصومة على التوافه، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب - فكله رذائل في غير رمضان؛ فهي فيه أرذل، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه، وأذهب بهاءه ورونقه، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه، وكذبوا وأخطأوا .. فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطبن لنزواتهم عكسَ تلك الآثار: هدوء واطمئنان، وتسامح وتحمّل، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول: إني صائم.
فعلى الدعاة إلى لحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يُحيوا آداب الصوم في نفوسهم، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس، ومن صبر على الصوم المديد، في الحر الشديد، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون .. ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله) اهـ.
[جريدة " البصائر " (العدد 232، 5 يونيو 1953م)، عن " آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي " (4/ 195 - 196، 198 - 199)].
¥