تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وهل نَسِيَ هذا أنَّ الكثير من الكفار يسبُّون الله، ويسبون رسوله، وجماعة منهم آذَوْا الأنبياء - صلوات الله عليهم - ثُمَّ إنَّ الله أمهل أكثرهم، ولم يعاقبهم في الدنيا، بل ربَّما أسلم بعضهم، فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة، فهل هذا أكرم على الله من أنبيائه، وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه.

إخوتي:

يقول ربنا - تعالى -: {قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 17 - 24]، إلى آخر الآيات.

فمن عرف نفسه حقيقة بداية ونهاية، لم يتكبَّر، فقد كان الإنسان عدمًا، فخلقه الله من ماء مَهين، من نطفة تستقر في الرحم، ثم تكون علقة قطعة دم، ثم مضغة، ثم جعله عظمًا، ثم كسا العَظم لحمًا، فقد كانت هذا بداية وجوده، فجعل له الله السمع والبصر والفؤاد وسائر الحواسِّ عند الصغر، ثم لا يزال يكبر، وتزداد نعم الله عليه، وإن عمَّر رُدَّ إلى أرذل العمر، ثم يكون مآله الموت، فيصبح جيفة ينفر منها القريب قبل البعيد، فلو تأمَّل العاقل اللبيب هذه البداية والنهاية، لَما تطرق له الكبر، لكنها الغفلة واستيلاء الشيطان على النَّفس.

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

إخوتي:

الكبر يَمنع من الانتفاع بالعلم، كما قال ربنا - تعالى -: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]، فمن الكبر بَطَر الحقِّ، فيجب قَبول الحق بغضِّ النظر عن قائله، ومَهْما تكن منْزلة مَن أخطأ الحق، ونبه على خطئه، فالقبول ليس لقول الشخص، بل الشخص ما هو إلاَّ ناقل عن الله وعن رسوله، فمن ردَّ الحق، فإنَّما يرد في الحقيقة حُكْم الله وحكم رسوله، وبذلك يتبيَّن عظم خطأ من يناظر غيره، ويصر على خطئه، بعد أن يتبين له الحق، حتَّى لا يقل قدره عند الناس بزعمه، ويتبين عظم خطأ مَن إذا عرض عليه الحق ممن هو أصغر منه سنًّا أو علمًا أو قدرًا، ردَّ قوله بهذه الحجج، والحق لا يعرف بذلك، فالفاسق وهو فاسق لم نؤمر برَدِّ خبره، بل أمرنا بالتثبت من خبره، فالحق ضالة المؤمن.

ولا زال أهل القُدوة من أصحاب النَّبي، ومن بعدهم من أهل الفضل والعلم يقبلون الحق، من غير التفات لقائله، وإن كان موغلاً في الشَّرِّ، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - حينما وكَّله الرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحفظ زكاة الفطر، أتاه آتٍ، فجعل يحثو من الطعام، وعاهد أبا هريرة ألاَّ يعود ثلاثًا، ثم لم يفِ بعهدٍ، وفي الثالثة قال له: دعني أعلمك كلمات، ينفعك الله بها، فقال له أبو هريرة - رضي الله عنه -: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، حتَّى تختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، قال أبو هريرة: فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما فعل أسيرُك البارحة) قلت: يا رسول الله، زعم أنَّه يُعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ((ما هي؟) قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها، حتَّى تَختم الآية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتَّى تصبح، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أما إنَّه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تُخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟) قال: لا، قال: ((ذاك شيطان))؛ رواه البخاري (2311)، فلم يَمتنع أبو هريرة من الانتفاع من هذا الشيطان السَّارق، بل انتفعتِ الأمَّة بعده إلى قيام الساعة بعد إقرار النَّبي لصدقه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير