الرقية ... تدخل في باب التعبّد التوقيفي, أم أنها من باب الاجتهاد
ـ[سمير زمال]ــــــــ[01 - 02 - 09, 11:26 م]ـ
هل الرقية من باب التطبب أم من باب التعبّد.
بمعنى هل الرقية ووسائلها تدخل في باب التعبّد التوقيفي, أم أنها من باب الاجتهاد.
الجواب:
هناك خلاف بين العلماء في هذه المسألة, وملخّص أقوالهم, كما يأتي:
القول الأوّل:
أنّ الرقية ووسائلها توقيفية تعبّدية, وهذا القول يقتضي شيئين اثنين:
الأول: أنه لا يجوز أن يرقى إلا ما ثبتت رقيته في السنة من أنواع الأسقام الحسية والعضوية.
الثاني: لا يجوز اتخاذ أي وسيلة في الرقية إلا ما ورد في صحيح السنة المطهّرة.
ودليلهم في ذلك:
1 - أن ما لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم الأصل رده، وباب الرقى قد بينت كيفياته في السنة.
2 - أن في ذلك أموراً لا يُدرى ما هي، فالمنع مما لا يعرف في باب الرقى محل إجماع.
3 - أن فتح الباب فيما لم يرد لا ينضبط، وهو مظنة دخول ما يحرم وما يكون شركاً.
القول الثاني:
أنّ الرقية ووسائلها من باب التطبب, فهي علاج كسائر أنواع العلاج, وبالتالي للراقي أن يجتهد في أي وسيلة يراها ناجعة.
ودليلهم في ذلك:
1 - ما رواه مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:" يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، قال: فعرضوها عليه، فقال: ما أرى بأساً، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" (رواه مسلم).
وهذا دليل على الاجتهاد في باب الرقية.
2 - وروى مسلم أيضاً عن عوف بن مالك الأشجعي، قال:"كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" (رواه مسلم).
فقوله: "لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك" وهذا ظاهر في إطلاق الإباحة في هذا الباب ما لم يكن في الرقى شرك.
3 - وفي حديث أبي سعيد الخدري في قصة اللديغ (المشهورة)، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "وما أدراك أنها رقية؟ ".
فيه إشارة إلى أنها اجتهاد من الراقي.
والراجح والله تعالى أعلم:
أنّ الرقية من باب الاجتهاد, في حقيقتها وفي وسائلها, وهي داخلة في جملة ما أباحه الله من علاج للأداوء, ولكن لا بد أن يراعى في الرقية شروط:
1) أن تكون بكلام الله تعالى القرآن، والأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأدعية الصحيحة التي ليس فيها شرك ولا بدعة وبألفاظ مفهومة لقوله صلى الله عليه وسلم: «اعْرِضُوا عَليَّ رُقَاكُمْ لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ».
2) أن تخلو من الألغاز والطلاسم والأدعية التي لا تفهم أو الحركات الغامضة.
3) أن يعتقد الراقي والمرقيّ بأن الشافي هو الله تعالى وأن هذه الأسباب إنما تنفع بتقديره سبحانه.
ثانياً: هل الرقية خاصة بالسحر والعين والمس؟؟
شاع عند أكثر الناس, بل وعند أكثر الرقاة أنّ الرقية تقتصر على هذه الأمور: (سحر, عين, مس).
وهذا اعتقاد مردود جملة وتفصيلاً.
بل الرقية تنفع من كل مرض وعاهة وألم ووجع, أياً كان نوعه, وجنسه, بل هي أشد تأثيراً في الأمراض من كثير من الأدوية الصيدلية.
وإنك لتعجب من فئام الناس تهرع إلى الأطباء, وتنسى كلام باريها, وفيه شفاء لكل داء.
نعم لا ننكر التداوي بالأدوية, لأنّ ذلك أصل ثابت في شرعنا, يشهد له حديث: جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء بَرِئ بإذن الله عز وجل" (رواه مسلم3).
ولكن ننكر إعراض الناس عن التداوي بالقرآن والرقية, في علاج أمراضهم العضوية.
والذي يشهد لذلك -أي: صحة التداوي بالرقية لعلاج الأمراض النفسية والعضوية-, ما يلي:
1 - ما ورد في قصة اللديغ (وهو الذي لدغته العقرب وأصابه سمّها) فشفاه الله تعالى بقراءة الفاتحة عليه وأقر النبي صلى الله عليه وسلم الراقي على ذلك).
2 - وما صحّ من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رقاه جبريلُ عليه السلام فقال: «باسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ... » ([11])، وقوله: «ومن كل داء يشفيك»، دليل على شمول الرقية لجميع أنواع الأمراض النفسية والعضوية.
3 - وباستقراء السنّة نجد الأمراض التي عولجت بالرقية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من الأمراض العضوية في الغالب.
4 - عموم قوله تعالى عن القرآن: (هُدًى وَشِفَاء) و (شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)، دليل على أنّ القرآن شفاء لكل داء.
5 - التجربة: فقد ثبت من تجربة الأخيار, كما نقل ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أنه مكث بمكة شاكياً لا يجد علاجاً إلا بسورة الفاتحة, فوجد لها أثراً عجيباً.
6 - وأنا أتكلم من منطلق ما مارسته من رقية أنّه ولله الحمد كثير من الأمراض العضوية قد تمّ علاجها بالقرآن الكريم.
7 - أثبتت التجارب المخبرية أنّ الكافر على كفره يتأثر عصبياً عند سماع كلام الرحمن, فللقرآن أثر عجيب في إزالة الهموم, وعلاج الأمراض النفسية.
8 - ولا أعلم أحداً داوم على قراءة القرآن, أصيب بمرض نفسي, بل الأمراض النفسية في الغالب ناتجة عن البعد عن الله جل وعلا, وقلة الإيمان بالقضاء والقدر, قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}.
وفي الختام:
وصيتي لأحبتي وللرقاة جميعاً ألاّ يزهدوا في كلام الرحمن, والعاقل يجمع بين الأسباب القدرية لعلاج الأسقام (وهي الأدوية الصيدلية) وبين الأسباب الشرعية وهي الرقية.
هذا وأسأل الله أن يمنّ على الجميع بموفور الصحة والعافية, وأن يحفظ علينا وعليهم الأسماع والأبصار والقوة.
إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه وحرّره: أبو يزيد سليم بن صفية المدني الجزائري * حفظه الله *.
¥