ثالثاً: يحتمل أن أم سلمة رضي الله عنها أرادت بذلك صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة الذي هو بلا شك يوم التاسع من ذي الحجة، وهو كذلك اليوم الذي يقف فيه الناس بعرفة، فعبرت عن يوم عرفة باليوم التاسع اجتهاداً منها ولا غرابة في ذلك.
رابعاً: أن رواية النسائي (2372) جاءت بلفظ: (كان يصوم تسعاً من ذي الحجة)، فيحتمل أن المعنى المقصود من الحديث أنه كان يصوم الأيام التسع من ذي الحجة، ويؤيد هذا أنه جاء بلفظ (كان يصوم العشر) أخرجه النسائي (2416)، وغيره عن هنيدة عن حفصة وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله.
يجاب على هذا الاعتراض:
ما ذكر من اضطراب في الحديث في سنده ومتنه لا يستلزم ضعف جميع الروايات،اللهم إلا إذا لم يمكن الجمع بينها أو الترجيح بين الروايات بشيء من وجوه الترجيح الصحيحة، أما إذا أمكن الجمع أو الترجيح كأن يكون لبعضها شواهد يتقوى بها، فإنه ينبغي حينها الأخذ بالراجح ورد المرجوح، ورواية فعله صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يصوم تسع ذي الحجة) يقويها أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم يوم عرفة، فيثبت استحباب صوم هذا اليوم من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله.
هذا وقد رجح الشيخ الألباني هذه الرواية من بين الروايات المضطربة في الحديث كما في " صحيح سنن أبي داود "، حيث قال في " الإرواء " (4/ 111): " .. وقد تكلمت على الاختلاف المذكور وذكرت الراجح منه في (صحيح أبي داود) " اهـ.
وأما تضعيفه في الجامع فلأن الرواية المضعفة كانت من الروايات المرجوحة، لأنها سندها عن هنيدة بن خالد عن حفصة مباشرة، والراجح هنيدة عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
4 - استدلالهم بظاهر قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (إنما النحر إذا نحر الإمام، وعظم الناس)، ليس فيه دلالة على قولهم، وهو يحتمل القولين كما ذكرتم في مناقشة أدلة القول الأول، ثم إن هذا الشك كما ذكروا سابقاً في مناقشة قول النخعي المقصود منه إذا غم على الناس الشهر بغيم أو نحوه، وكان يوم عرفة مشكوك فيه، وحينها يكون النحر إذا نحر الإمام، وكذلك يوم عرفة يوم يعرف الإمام والناس، كما صرحت به عائشة رضي الله عنها في قولها: (يوم عرفة يوم يعرف الإِمام).
يجاب على هذا الاعتراض:
هو كما قلتم في أن المسألة متعلقة بما ذكرنا، ولكن في الأثر هذا مغزى آخر يتبين بهذا السؤال: ما مراد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإمام؟ هل هو الإمام الأعظم أم ولاته أم غيرهم؟
إن قلتم هو الإمام الأعظم فهنا وجب عليكم أن تأخذوا بالمسألتين النحر والفطر مع الإمام الأعظم وهو ولي أمر المسلمين، فلماذا تفرقون بين المسألتين.
ثم إن أولياء الأمر في زماننا كثر!! فلكل دولة حاكمها وأميرها الذي يقوم بأمرها، وعلى هذا القول أو حتى غيره من الأقوال، ينبغي النحر مع الإمام، والفطر مع الإمام، والتعريف مع الإمام، حتى عند من يرى عدم اعتبار اختلاف المطالع، وما أحسن ما قاله الشيخ الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " (6 / القسم الأول / 254): " ... ونرى أن من الواجب على الحكومات الإسلامية أن يوحدوا يوم صيامهم و يوم فطرهم، كما يوحدون يوم حجهم، و لريثما يتفقون على ذلك، فلا نرى لشعوبهم أن يتفرقوا بينهم، فبعضهم يصوم مع دولته، و بعضهم مع الدولة الأخرى، و ذلك من باب درء المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما هو مقرر في علم الأصول .. " اهـ، ومثل قوله يقال في مسألتنا هذه، وهذا هو القول الذي ينبغي المصير إليه، والتعويل عليه، وقد ذكر ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " (ص 456) عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قوله في الأمراء: " هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا ". اهـ،
أما التفريق بين مسألة وأخرى فهو أمر غير مسلم به، وهو مع ما فيه من بعد، فيه تشتيت لجماعة المسلمين في البلد الواحد، فكيف يقال للجماعة صوموا مع ولي أمركم وما يفتى به في بلدكم، وأفطروا معهم، فإذا جاء شهر ذي الحجة وتقدمتم أو تأخرتم عن وقفة الناس بعرفة فلا تصوموا مع الإمام ولا تضحوا معه! بل ولا تصلوا العيد معه على حد زعم بعضهم!
¥