ثم إن أمر المخالفة راجع إلى النيات ولا يعلمها إلا الله، ونحن مأمورون بالطاعة في غير معصية، ومسألتنا فيما نرى للاجتهاد فيها مجال، فإن كان حكم الحاكم فيها لاجتهاد ومقصد شرعي فله ولنا، وإن كان لغير ذلك فلنا وعليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم وإن أخطئوا فلكم وعليهم)، أخرجه البخاري (694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ـ[أحمد العماني]ــــــــ[12 - 02 - 09, 04:09 م]ـ
المبحث الرابع:
الرأي الراجح
بعد استعراض آراء أهل العلم في هذه المسألة، والنظر في أدلتهم وحججهم، وما ذكر من اعتراضات على بعضها، يتبين أن أصل الخلاف في هذه المسألة منحصر في مسألتين:
المسألة الأولى: إذا قلنا باعتبار اختلاف المطالع، فهل هذا الاعتبار عام في جميع شهور السنة الهجرية أم أنه يفرق بين شهر ذي الحجة وبين غيره من الشهور؟
والراجح: أننا إذا قلنا باعتبار اختلاف المطالع – وهو رأي مرجوح عندنا - فإنه يكون في جميع أشهر السنة من دون تفريق بين شهر أو آخر، فإذا جاز اعتبار اختلاف المطالع في شهر رمضان وشوال، فلم لا يجوز اعتبارها في شهر ذي الحجة؟ وما وجه هذه التفريق بين شهر ذي الحجة وبين غيره من الشهور؟ أوليس الهلال هو الهلال، والثبوت هو الثبوت ً.
ثم هنا مسألة مهمة تتعلق بهذه المسألة: وهي هل إذا أخرجنا شهر ذي الحجة من قائمة اعتبار اختلاف المطالع تكون العبرة حينها فقط برؤية بلاد الحرمين لهلال ذي الحجة دون غيرهم من سائر الأقطار؟ أم أنه متى ثبتت رؤية هلال شهر ذي الحجة في أي بلد من بلاد الإسلام قرب أم بعد فإن لهذه الرؤية اعتبارها.
والراجح: أننا إذا قلنا بإخراج شهر ذي الحجة من قائمة اعتبار اختلاف المطالع – وهو رأي مرجوح عندنا - فإن الخطاب بتحري رؤية هلال شهر ذي الحجة يكون حينها موجهاً لعموم المسلمين في بلاد الإسلام سواء تقاربت البلاد أم تباعدت، وأنه متى ثبتت رؤية الهلال في أي دولة من دول العالم الإسلامي، وكانت هذه الرؤية رؤية صحيحة معقولة غير مطعون فيها من كل الوجوه، ولم تكن ممتنعة أو مستحيلة، فإنه يلزم عموم المسلمين اعتبارها وقبولها لدخول شهر ذي الحجة، لأن المسلمين أمة واحدة، وديارهم ديار واحدة.
أما أن يكون التحري مقتصراً على بلاد الحرمين دون غيرها من دول العالم الإسلامي ولو كانت قريبة منها، فإن هذا فيه من الإجحاف والحكر ما فيه، ولم يقل به أحد من أهل العلم فيما نعلم، بل ذكر الحافظ ابن حجر في " إنباء الغمر " في أحداث عام خمس وأربعين وثمانمائة أن وقفة عرفة كانت في هذه السنة برؤية أهل الشام فقد قال: " ... وكان وصول الركب إلى مكة سحر يوم الخميس ولم يروا الهلال تلك الليلة لكثرة الغيم وسألوا أهل مكة فلم يخبر أحد منهم برؤيته. وتمادوا على أن الوقفة تكون يوم السبت وأشار عليهم القاضي الشافعي أن يخرجوا يوم الخميس ويسيروا إلى عرفة ليدركوا الوقوف ليلة السبت احتياطا ويقفوا يوم السبت أيضا. فبينا هم على ذلك إذ دخل الركب الشامي فأخبروا برؤية الهلال ليلة الخميس وانه ثبت عند قاضيهم فبنوا على ذلك ووقفوا يوم الجمعة ونفروا ليلة السبت على العادة " اهـ.
وكيف نقول لأهل البلاد الإسلامية - على الأقل القريبة من بلاد الحرمين – التي قد ثبت رؤية هلال شهر ذي الحجة عندهم برؤية مشتهرة أو متواترة، شرعية صحيح لا مطعن فيها، ولم تكن ممتنعة أو مستحيلة بأي وجه من الوجوه، كيف نقول لهم أن رؤيتكم غير معتبرة لأن بلاد الحرمين لم يثبت عندهم رؤية الهلال إما بسبب غيم أو ضباب أو غبار أو نحوها، أو لأن رؤية عموم بلاد الإسلام ما خلا بلاد الحرمين غير معتبرة، وأن هلال شهر ذي الحجة حكر ومخصوص فقط لبلاد الحرمين. فهذا وربي حكم لا يقبله شرع، ولا عقل، ولا حس.
المسألة الثانية: هل يوم عرفة علم على الزمان بحيث يتعلق حكم الصوم وفضله على يوم التاسع سواء وافق وقفة الناس بعرفات أم لم يوافق، أو أنه علم على المكان وهو يوم وقوف الناس بعرفة؟
والراجح: أن هذه المسألة قد تحتمل الأمرين، ولكن الذي يظهر والله أعلم أن احتمال كونها علم على الزمان هو الأقرب.
قال الخرشي المالكي في " شرح مختصر خليل ": " والمواسم جمع موسم الزمن المتعلق به الحكم الشرعي ولم يرد بعرفة موضع الوقوف بل أراد به زمنه وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وأراد بعاشوراء اليوم العاشر من المحرم " اهـ.
و خلاصة رأينا في هذه المسألة ونحوها: أننا نرجح عدم اعتبار اختلاف المطالع في هذا الشهر وفي غيره من الشهور وأن الخطاب في الرؤية موجه لعموم المسلمين، فمتى رأى المسلمون الهلال في أي بلد لزم بقية المسلمين الأخذ به في الصيام والفطر والحج، سواء اتفقت ديارهم أم اختلفت، وسواء تقاربت أم تباعدت، لأن المسلمين أمة واحدة، وديارهم ديار واحدة.
وحتى تتوحد أمة الإسلام على ذلك، فإنه ينبغي على أهل كل بلد أن يعملوا بمقتضى ما يثبته المختصون من لجان الفتوى أو التحري المخولة من قبل الحاكم، ولا يتفرقوا فيما بينهم، فإن كان لا يمكن للأمة أن تتفق حول هذه المسألة فلا أقل من أن يتفق أهل البلد الواحد على ذلك.
وعليه نقول: أن اليوم التاسع من ذي الحجة في كل بلد سواءً وافق الوقوف بعرفة أم لم يوافق هو اليوم الذي تتعلق فيه أحكام يوم عرفة وفضله فيه بإذن الله تعالى.
لا حَرَمَ الله أجر صيام يوم عرفة وفضله على المسلمين، ففضله سبحانه وتعالى واسع، فهو بر جواد كريم، عدل واسع باسط، والأعمال بالنيات، ولا يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
هذا آخر ما تيسر جمعه حول هذه المسألة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله أسأل أن ينفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه:
أبو محمد أحمد بن محمد بن خليل
بتاريخ: 29/ 12 / 1429 هـ، وفقاً لرؤية سلطنة عمان.
و تاريخ: 1/ 1 / 1430 هـ، وفقاً لرؤية المملكة العربية السعودية.
¥