((إن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: (احجب نسائك)، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن؛ دفعاً للمشقة ورفعاً للحرج)).
وقال القاضي عياض:
((فرض الحجاب مما اختصصن به (أي أمهات المؤمنين)، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات؛ إلا ما دعت إليه ضرورة من براز.
2ـ وعنها أيضاً في حديث قصة الإفك قالت:
(( ... فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فأري سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت (وفي رواية: فسترت) وجهي عنه بجلبابي ... )) رواه البخاري ومسلم.
3ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت:
((كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله عليه الصلاة و السلام محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه)) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وسنده حسن في الشواهد، ومن شواهده الحديث الذي بعده.
4ـ عن اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها قالت:
((كنَّا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنَّا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)) رواه الحاكم وقال:حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وإنما هو على شرط مسلم وحده.
والمراد بقولها (نغطي) أي نسدل كما في الحديث الذي قبله.
5ـ عن صفية بنت شيبة قالت:
((رأيتُ عائشةَ طافت بالبيت وهي منتقبة)) رواه ابن سعد وعبد الرزاق في المصنف ورجاله ثقات.
ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفاً في عهده عليه السلام، وأن نساءه كنَّ يفعلن ذلك، وقد استنَّ بهن فضليات النساء بعدهن، وإليك مثالين على ذلك:
1ـ عن عاصم الأحول قال:
((كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا: وتنقبت به، فنقول لها:
رحمك الله! قال الله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} ـ وهو الجلباب ـ قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وأن يستعففن خير لهن}، فنقول: هو إثبات الحجاب)) رواه البيهقي وإسناده صحيح.
2 ـ عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضي قال:
حضرتُ مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين، وتقدمت امرأة، فادَّعى وليُّها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر، فقال القاضي:
شهودك. قال:
قد أحضرتهم. فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي. فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل:
ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة، لتصح عندهم معرفتها. فقال الزوج:
وإني أشهد القاضي أن لها عليَّ هذا المهر الذي تدَّعيه ولا تسفر عن وجهها. فردت المرأة ـ وأخبرت بما كان من زوجها ـ فقالت:
فإني أشهد القاضي: أنْ قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة.
فقال القاضي:
ُيكتبُ هذا في مكارم الأخلاق.أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد.
فييستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود ...