وفي نهاية المحتاج:" ولو أخطأ الطبيب في المعالجة وحصل منه التلف وجبت الدية على عاقلته ".
وفي الأم:"ولو جاء رجل بصبي ليس بابنه ولا مملوكه وليس له بولي إلى ختان أو طبيب فقال: اختن هذا أو بطّ هذا الجرح له، أو اقطع هذا الطرف له من قرحة به فتلف كان على عاقلة الطبيب والختان ديته"
وفي المبدع:"فلو كان فيهم حذق الصنعة وجنت أيديهم ... وجبت الدية".
وما أوجبته الشريعة الإسلامية من تضمين المخطئ ليس عقوبة عليه لأن الضمان ليس تابعاً للمخالفة، بل شرع لتدارك المصلحة الفائتة، أو جبرها ومنع الناس من إتلاف بعضهم منافع بعض بدعوى الخطأ.
أدلة هذا القول:
1 - أنه قتل بغير حق؛ لأن حقه في قطع السلعة أو الحشفة مثلا ً, وقد سرى إلى القتل, فيضمن, كما لو جنى خطأ.
ونوقش هذا الدليل: بوجود الفرق؛ إذ الطبيب أمين قد أذن , بخلاف المخطئ.
2 - أن جناية يد الطبيب إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ,فيضمن, كإتلاف المال, إذ حق الآدميين مبني على المشاحة.
ويمكن أن يناقش: بوجود الفرق بني الخطأ في إتلاف المال وخطأ الطبيب, لأن المتلف للمال لم يؤتمن عليه , بخلاف خطأ الطبيب فقد ائتمنه المريض على بدنه ,والأمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط.
3 - أن جناية يد الطبيب فعل محرم, فيضمن سرايته , كالقطع ابتداءً.
ونوقش من وجهين:
1\بعدم التسليم بأن خطأ الطبيب محرم؛لعدم تعمده, فلا إثم عليه.
2\وجود الفرق بين القطع ابتداءً, وبين خطأ الطبيب, فمن قطع ابتداءً يضمن, لعدم ائتمانه على البدن, وأما خطأ الطبيب فيعفى عنه لائتمانه على البدن, والإذن له في المداواة , وماترتب على المأذون غير مضمون, ويثبت تبعا مالا يثبت استقلالا.
4 - أن يد الطبيب إذا جنت خطأ فهو في معنى الجاني خطأ , فيضمن.
ونوقش هذا التعليل بما نوقش به التعليل السابق.
5 - في تقرير الضمان الحفاظ على الأرواح , وتنبيه الأطباء إلى واجبهم, واتخاذ الحيطة اللازمة في أعمالهم المتعلقة بحياة الناس.
الترجيح:
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة - والله أعلم –هو أن الأصل في خطأ الطبيب الضمان للأحاديث والنصوص الواردة ولكن إذا كان خطؤه يسيراً، أو هو مما قد يخطئ بمثله لا يضمن، وهذه تعود لمهارة الطبيب وخبرته، أما ما كان خطؤه وتلفه فاحشاً فهو ضامن بلا خلاف، ويحمل بالتالي الرأي في المذهب المالكي على ما كان خطؤه يسيراً.
الحالة الرابعة: أن يكون الطبيب حاذقا فيجتهد في وصف الدواء للمريض فيخطئ , إما في صرف علاج لا علاقة له بالمرض , أو في صرف كمية أكثر من الكمية اللازمة, أو نحو ذلك, فيتلف المريض, أو عضو من أعضائه أو منفعة من منافعه.
وتأخذ هذه الحالة حكم المسألة السابقة.
يقول الشيخ ابن عثيمين:" يضمن لأنه جنت يده في الواقع , وأخطأ في التقدير فيكون ضامناً وإن كان غير آثم".
قال الجزيري:" المالكية قالوا: ... أما إذا أخطأ العلاج فوصف للمريض دواء لا يوصف لهذا المريض فقتله فإن كان من أهل المعرفة فإن دية المقتول تكون على عاقلة ذلك الطبيب , وإن لم يكن من أهل المعرفة يعاقب".
الحالة الخامسة: أن يكون الطبيب حاذقا ,لكن يداوي المريض بلا إذن:
وهذا إما أن يكون الطبيب غير متبرع:
إذا كان غير متبرع بل هو مستأجر , فلابد من رضا المريض وأهليته للإذن بأن يكون بالغا عاقلا, فإن لم يكن أهلا فلابد من إذن وليه.
وعلى هذا يضمن الطبيب ما حصل بمداواته من تلف باتفاق الأئمة.
أو يكون الطبيب متبرعا:
وقد اختلف الفقهاء في تضمينه على قولين:
القول الأول: إن الطبيب لايضمن.
وبه قال ابن حزم , واختاره ابن القيم.
حجة هذا القول:
1 - استدلوا بقوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل).
وجه الدلالة: أن الطبيب إذا عالج بدون إذن المريض أو وليه, ولم يتعد في علاجه فهو محسن بفعله, فلاضمان عليه.
2 - قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
فالطبيب ممثل لأمر الشرع بمداواته, ولو بغير إذنه.
3 - أن الطبيب إذا عالج بدون إذن ولي المريض, فإنه إذا كان متعدياً ,فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان, وإن لم يكن معتدياً فلا وجه لضمانه.
القول الثاني: أن الطبيب إذا عالج بدون إذن المكلف , أو ولي غير المكلف, فإنه يضمن ماحصل بسبب مداواته من تلف.
وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة.
قال الجزيري:" الحنابلة قالوا: ... وإذا عمل الطبيب الحاذق عمليه لصغير بدون إذن وليه فأصابه ضرر فإنه
يضمن ولو لم يخطئ ,فإذا أذنه وليه فأخطأ كان الطبيب ضامناً".
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
1 - أن الطبيب إذا عالج بدون إذن المريض أو وليه, فإن ذلك يعد تعدياً على المريض, لعدم الإذن, فيضمن.
مناقشة هذا الدليل:
ناقشه ابن القيم بقوله:"قلت: العدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو , فلا أثر للإذن وعدمه فيه ".
2 - أن الأصل إيجاب الضمان , فإذا أذن المكلف كان مسقطاً لحقه بذلك الإذن , وإذا لم يأذن بقي حكم الأصل الموجب للتضمين.
ونوقش: بعدم التسليم بأن الأصل إيجاب الضمان إلا إذا تعدى الطبيب أو فرط في أثناء المداواة.
الترجيج:
الذي يظهر رجحانه في هذه المسألة –والله أعلم بالصواب- هو القول الأول القائل بأن الطبيب لايضمن إذا عالج ولم يتعد أو يفرط في علاجه سواء أذن له إذا كان متبرعا أم لم يؤذن له؛لقوة ما استدلوا به.
¥