ورحل أيضًا سُحنون [13]- رحمه الله - إلى ابن القاسم، فكان ممَّا قرأ عليه مسائل المُدَوَّنة والمُخْتَلِطة [14]، وكان سُحنون إذا حَثَّ على طلب العلم والصبر عليه، تَمَثَّل بهذا البيت:
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ القَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا [15]
وفي مختصر المَتِّيطِيَّة [16]: في الحديث "لا يُنال العلم براحة الجسم" [17].
قال يحيى بن يحيى [18]: إنَّ رجلاً من الطلبة ذكر هذا الحديث وهو على بطن امرأته، فنزل عنها قبل أن يقضي حاجته، وأخذ دَفْتَره من العلم يقرؤه.
* * * * *
وإذا أراد الخروج إلى الغربة في طلب العِلْم، فالأفضل له أن يَخرج بإِذْن أبويْه، فإن لَم يأْذَنا له، فلا بأْسَ بالخروج إذا كانا مُسْتَغْنِيَينِ عنه.
وفي حديث مسلم عن أبي هريرة: ((ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) [19]، وفيه دليل على استحباب المشي في طلب العلم.
ويُروى أنَّ الله - سبحانه وتعالى - أوحى إلى سيدنا داود - عليه السلام – أنْ: "خذ عصًا من حديد، ونعلين من حديد، وامش في طلب العلم، حتى يتَخَرَّق النَّعْلان، وتنكسر العصا" [20].
وفيه دليلٌ على خدمة العلماء، وملازمتهم، والسفر معهم، واكتساب العلم منهم.
قال الله تعالى حاكيًا عن سيِّدنا موسى - عليه السلام -: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66].
وبتعظيم أستاذِه تظهَرُ فيه بركة العلم، وبالاستخفاف به تذهب عنه.
وقال العلاَّمة ابن مرزوق [21] في "شرح البُرْدة" [22]: ولا يَحْصُل العلم إلا مع تَفَرُّغ البال له، وقطْع العلائق التي تشغل عنه، ولذلك كان أيضًا [23] أوقات طلبه الليل، ألا ترى أنَّ أصله إنَّما حَصَل لسيد البشر - صلى الله عليه وسلم - بعد تنقية قلبه من علاقة الدنيا، التي هي حظُّ الشيطان، وذلك تفرغ البال، وأيضًا الليل وقت الخَلَوات، وهدوء الأصوات.
وقال مالك: لا يُنال هذا العلم حتى يُذاق فيه طعْم الفقْر، وذكر ما نزل برَبيعة من الفقر، حتَّى باع خُشُب سَقْف بيته في طلب العلم [24].
وقال سُحنون: لا يَحْصُلُ العلم لمن يأكل حتى يشبع، ولا لمن يَهْتَمُّ بغَسْل ثوبه [25].
وقال ابن عباس: خُيِّر سُليْمان - عليْه السَّلام - بين العلم والمال والمُلك، فاختار العِلْم، فأعْطاه الله تعالى المالَ والمُلك معه [26].
وفي كتاب "الذَّرِيعَة" لابن العِماد [27]: تَكَفَّل الله تعالى برزق طالب العلم؛ أي: تكفلاً خاصًّا، وإلاَّ فالله تعالى تَكَفَّل برزق كلِّ أحد.
وللمرادي [28]:
فَوَائِدُ العِلْمِ يَحْوِيهَا وَيَجْمَعُهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ هَمُّهُ أَنْ يَجْمَعَ الذَّهَبَا
أي: المُطْغِي، والذي يُوجب نقصَ حظِّ الآخرة، وأمَّا القَدْرُ الضروري الذي يتَقَوَّى به على العلم، فلا بُدَّ منه، فيَرْضَى بالدُّونِ من العَيْش من غير أن يترك حَظَّ نفسه من الأكل والشرب والنوم.
* * * * *
ولا ينبغي له أن يترك شيئًا من الفرائض، أو يُؤخرها عن وقتها، ولا من السُّنَن والنَّوافل، ولا أن يُؤذي أحدًا لأجل التَّعَلُّم، فتذهب بَرَكة العلم، ولا أن يكون بخيلاً بعلمه، من إعارة كتاب، أو تَفَهُّم مسألة، أو نحو ذلك لمن كان أهلاً؛ لأنَّه يَقْصِد بتَعَلُّمِه أمورًا، من جُملتها: مَنْفَعَةُ الخَلْق في المآل، فلا يمنع منفعته في الحال.
* * * * *
وينبغي له أن يُعَظِّم العلم، ويُقَلِّل معاشرة الناس ومُخالطتهم، ومُباشرة النِّساء ومُخَالَطَتَهُنَّ، ويَشْتَغِل بِما يَعْنِيه، ويَتَذَاكر المسائل مع أصحابه، أو وَحْدَه.
قيل لابن عباس - رضي الله عنهما -: بِمَ أدركتَ العلم؟ قال: بلِسانٍ سَؤول، وقَلْبٍ عَقُول، وفُؤادٍ غيرِ مَلُول، وكَفٍّ بَذُول، وبَدَنٍ في السَّراء والضَّراء صَبُور [29].
ويقال: مَنْ رقَّ وَجْهُه، رقَّ عِلْمُه [30].
وقيل لبعضهم: بِمَ نِلْتَ ما نِلْت؟ قال: ببُكُورٍ كبُكُورِ الغُراب، وتَمَلُّق كتَمَلُّق الكلب، وتَضَرُّع كتَضَرُّع السِّنَّوْر، وحِرْصٍ كحرص الخِنزير، وصَبْر كصبر الحمار [31].
ويستعمل الرِّفق والإنصاف إذا وقعتْ بينه وبين إنسان مُنازعة أو خُصومة؛ ليَظْهَر الفَرْقُ بينه وبين الجاهل، ويُداري الناس؛ إذ خَيْرُهُم مَنْ يُداري، وشَرُّهُم مَنْ يُمَاري.
¥