وأما ابن عباس وابن الزبير فقد سبق فعل ابن الزبير، من رواية وهب ابن كيسان وعطاء، وأن ابن عباس قال: أصاب السنة. وهو تصريح منه بتصويب فعل ابن الزبير، وقد استدل به على إسقاط الجمعة عن الإمام، ولم يذكر في أكثر الروايات أن ابن الزبير صلى الظهر، وقال بعضهم: لعله صلاها في بيته، لكن وقع عند ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء قال: اجتمع عيدان في عهد ابن الزبير، فصلى بهم العيد، ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعا ([66]).
وأما الشعبي فرواه عنه ابن أبي شيبة، قال: إذا كان يوم جمعة وعيد أجزأ أحدهما من الآخر.
وأما النخعي فروى ابن أبي شيبة، عن الحكم، عن إبراهيم وهو النخعي، قال: يجزئه الأولى منهما. وفي لفظ: يجزئ أحدهما. ورواه عبد الرزاق بلفظ: يجزئ واحد منهما عن صاحبه ([67]).
ولم أجده في هذه المراجع عن الأوزاعي.
فهذا ما وقفت عليه من هذه الآثار وفيها دلالة واضحة على أنهم فهموا من إطلاق الأحاديث المرفوعة التخيير العام في ترك الجمعة، وقد ذكرنا جواب ابن عبد البر عن الأحاديث، وما حملها عليه، ولا شك في دلالتها صراحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بمن حضره، وأنهم عدد كثير كما ذكر ذلك في حديث أبي هريرة بقوله في رواية شعبة: وإنا مجمعون إن شاء الله ([68]) وفي رواية الثوري المرسلة قال: إنا مجمعون، فمن شاء منكم أن يجمع فليجمع، ومن شاء أن يرجع فليرجع وفي رواية البكائي قال: وإني مجمع إذا رجعت، فمن أحب منكم أن يشهد الجمعة فليشهدها " فلما رجع رسول الله صلى الله عليه سلم جمع بالناس.
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يقيم الجمعة يوم العيد حديث النعمان بن بشير عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ} سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى {] سورة الأعلى: 1 [و} هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ {] سورة الغاشية: 1 [قال: وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما ([69]) وقد رواه ابن أبي شيبة في باب اجتماع العيد والجمعة.
والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رفق بالمصلين الذين يأتون من مكان بعيد كالعوالي، كما روى عبد الرزاق عن ابن جريج، قال. أخبرني بعض أهل المدينة عن غير واحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع في زمانه يوم جمعة ويوم فطر، أو يوم جمعة وأضحى، فصلى بالناس العيد الأول، ثم خطب فأذن للأنصار في الرجوع إلى العوالي وترك الجمعة، فلم يزل الأمر على ذلك بعد، قال ابن جريج: وحدثت عن عمر بن عبد العزيز، وعن أبي صالح الزيات: أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع في زمانه يوم جمعة ويوم فطر، فقال: " إن هذا يوم قد اجتمع فيه عيدان، فمن أحب فلينقلب، ومن أحب فلينتظر اهـ. فإن هذا الحديث صريح أن الرخصة كانت لأهل العوالي، ويدل عليه قوله: " فلينقلب " أي يرجع إلى منزله البعيد، ويدل على ذلك كلام عثمان الذي رواه مالك والبخاري وغيرهما، فإن إذنه إنما هو لأهل العوالي، وقد سبق قول ابن عبد البر بعد حديث زيد بن أرقم: أن الإذن خص به من لم تجب الجمعة عليه ممن شهد ذلك العيد. وإذا احتملت هذه الآثار ما ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه؛ لأن الله عز وجل يقول:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ {] سورة الجمعة: 9 [الآية.
تلخيص مذاهب العلماء:
وقد تلخص أن قول الحنفية لزوم الجمعة على من تجب عليه في غير العيد، وعللوا بأن الجمعة فرض، والعيد سنة، ولا يسقط الفرض بأداء السنة.
وأن مذهب الظاهرية وجوب العيد ووجوب الجمعة، وعدم سقوط إحداهما بأداء الأخرى، وقد توسع ابن حزم في الاستدلال لما يقول.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة العيد فرض عين، وذكروا أدلة على ذلك ليس هذا موضع ذكرها.
وأما الجمعة فلا خلاف في وجوبها على من سمع النداء أو قرب من موضع إقامة الجمعة، وقد ذكرنا ما أورده ابن عبد البر فيمن تجب عليه الجمعة، حتى قال بعضهم: تجب على من آواه الليل إذا رجع إلى أهله، أي وصلهم قبل الليل، وحدده أكثرهم بثلاثة أميال أو بفرسخ، وهو ما يبلغه النداء غالبا.
وعرفنا أيضا أن قول مالك وأتباعه عدم سقوط الجمعة عمن شهد العيد، ولم يعتبر مالك إذن الإمام، وذكر أنه لم يبلغه أن أحدا من الأئمة أو الخلفاء رخص في ترك الجمعة غير عثمان، فاختار لزوم الجمعة لأهل العوالي كغيرهم من أهل الأمصار، وكأنها لم تبلغه الأحاديث في الرخصة، أو حملها على من لا تلزمه الجمعة؛ لبعده، أو كونه خارج البلد، كالبوادي.
وأما الشافعي فقد عمل بحديث عثمان، وما رواه عن عمر بن عبد العزيز مرسلا، وهو سقوط الجمعة عن أهل العوالي، أو من كان من غير أهل المصر إذا أذن لهم الإمام، مع اختياره لهم الانتظار أو الرجوع إلى الجمعة بعد انصرافهم، فإن لم يرجعوا فلا حرج.
وأما الحنابلة فقد أخذوا بظاهر الأحاديث، لما فيها من الإطلاق، والرخصة لكل من شهد العيد من قريب أو بعيد في ترك الجمعة، وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة وغيرهم كما سبق، وقد ذكرنا ما تحتمله الأحاديث والآثار، وما يقال حولها، ولم نتكلم على طرق وأسانيد تلك الآثار؛ اكتفاء بالإحالة إلى مواضعها من كتب الأسانيد المطبوعة.
¥