قال الخطابي: ظاهر اسم الجمع عُرفا لا يقع على مَنْ أخّر الظهر حتى صلاها في آخر وقتها، وعجّل العصر فصّلاها في أول وقتها؛ لأن هذا قد صلّى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها، وإنما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما. ومعقول أن الجمع بين الصلاتين من الرُّخص العامة لجميع الناس عامهم وخاصّهم، ومعرفة أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يُدركه الخاصة فضلا عن العامة، وإذا كان كذلك كان في اعتبار الساعات على الوجه الذي ذهبوا إليه ما يُبطل أن تكون هذه الرخصة عامة، مع ما فيه من المشقة المُرْبِية [14] على تفريق الصلاة في أوقاتها الموقّتة [15].
وقال ابن عبد البر: ولا معنى للجمع الذي ذهب إليه أبو حنيفة، ومن قال بقوله؛ لأن ذلك جائز في الحضر بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في طرفي وقت الصلاة: " ما بين هذين وقت " فأجاز الصلاة في آخر الوقت، ولو لم يَجز في السفر من سعة الوقت إلا ما جاز في الحضر بطل معنى السفر ومعنى الرخصة والتوسعة لأجله.
ومعلوم أن الجمع بين الصلاتين في السفر رخصة لمكان السفر وتوسعة في الوقت، كما أن القصر في السفر لم يكن إلا من أجل السفر، وما يُلقى فيه من المشقة في الأغلب، وفي ارتقاب المسافر ومراعاته أن لا يكون نزوله إلا في الوقت الذي عدّه أبو حنيفة مشقة وضيقا لا سعة [16].
وقال ابن قدامة: الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها، ومن تدبر هذا وجده كما وصفنا، ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب والعشاء والصبح، ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك [17].
وقال ابن حجر: الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع، ومما يَرُدّ الحمل على الجمع الصوري جمع التقديم [18].
وأُجيب عن القول الثالث - أن الجمع يختص بمن جدّ به السير - بما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك؛ إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإذا ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخّر المغرب حتى ينزل للعِشاء ثم جمع بينهما [19].
قال ابن قدامة: وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الردّ على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير، لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعا ثم ينصرف إلى خبائه [20].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ظاهر حديث معاذ أنه كان نازلا في خيمة في السفر، وأنه أخّر الظهر ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل، وأما السائر فلا يقال دخل وخرج بل نزل وركب [21]
وذكر ابن عبد البر حديث ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عَجِل به السير يجمع بين المغرب والعشاء.
ثم قال: ليس في حديث ابن عمر هذا ما يدل على أن المسافر لا يجوز له الجمع بين الصلاتين إلا أن يَجِدّ به السير بدليل حديث معاذ بن جبل؛ لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفره إلى تبوك نازلا غير سائر.
وليس في أحد الحديثين ما يعارض الآخر، وإنما التعارض لو كان في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يجدّ به السير فحينئذ كان يكون التعارض لحديث معاذ [22].
قال العراقي: وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْجَدِّ فِي السَّفَرِ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَعُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ [23].
وقال الشوكاني:
في الحديث دليل على جواز جمع التأخير في السفر سواء كان السير مُجِدّاً أم لا [24].
وبمثل هذا أُجيب عن القول الرابع، في أن الجمع في السفر يختص بمن له عذر.
¥