وصل إلى مدينة السلام بالجانب الشرقي ابن القشيري وأظهر على الكرسي مقالة الأشعري ولم تكن ظهرت قبل ذلك على رؤوس الأشهاد لما كان يلحقهم من أيدي أصحابنا وقمعهم لهم فعظم ذلك عليه – أي الشريف - وأنكره غاية الإنكار وعاد إلى نهر المعلى منكراً لظهور هذه البدعة وقمع أهلها فاشتد أزر أهل السنة وقويت كلمتهم وأوقعوا بأهل هذه البدعة دفعات وكانت الغلبة لطائفتنا طائفة الحق.
2 - قال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1\ 13):-
وفي سنة ستين وأربعمائة كان أبو علي بن الوليد- شيخ المعتزلة- قد عزم على إظهار مذهبه لأجل موت الشيخ الأجل أبي منصور بن يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور، هو وأهل مذهبه، وسائر الفقهاء وأعيان أهل الحديث، وبلغوا ذلك. ففرح أهل السنة بذلك، وقرأوا كتاب التوحيد لابن خزيمة. ثم حضروا الديوان، وسألوا إخراج الاعتقاد الذي جمعه الخليفة القادر. فأجيبوا إلى ذلك. وقرىء هناك بمحضر من الجميع، واتفقوا على لعن من خالفه وتكفيره. وبالغ ابن فَورك في ذلك.
ثم سأل الشريف أبو جعفر، والزاهد الصحراوي: أن يسلم إليهم الاعتقاد، فقال لهم الوزير: ليس ههنا نسخة غير هذه. ونحن نكتب لكم به نسخة لتقرأ في المجالس. فقالوا: هكذا فعلنا في أيام القادر، قرىء في المساجد والجوامع. فقال: هكذا تفعلون، فليس اعتقاد غير هذا، وانصرفوا. ثم قرىء بعد ذلك الاعتقاد بباب البصرة، وحضره الخاص والعام.
وكذلك أنكر الشريف أبو جعفر على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وغيره، فاختفى مدة ثم تاب وأظهر توبته.
3 - وقال أيضا (1\ 13 - 15):-
فتنة ابن القشيري، قام فيها الشريف قيامًا كليًا، ومات في عقبها.
ومضمون ذلك: أن أبا نصر ابن القشيري ورد بغداد، سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية. وأخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم. وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة، ويسأله المعونة. فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده، والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت. فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من العامة، وجرح آخرون، وأخذت ثياب.
وأغلق أتباع بن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا منصور- يعنون العُبَيدي صاحب مصر- وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه ممالىء للحنابلة، لا سيما والشريف أبو جعفر ابن عمه.
وغصب أبو إسحاق، وأظهر التأهب للسفر. وكاتب فقهاءُ الشافعية نظام الملك بما جرى، فورد كتابه بالامتعاض من ذلك، والغَضَب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما.
وحكى أبو المعالي صالح بن شافع، عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره، ممن شاهد الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة. فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة، فتلطفوا به حتى حضر في الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفي، وأبو نصر بن القشيري. فلما حضر الشريف عظَّمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد، وأَمَرهم بالدنوّ من الشريف. فقام إليه أبو إسحاق، وكان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ، فقال: أنا ذاك الذي تعرف، وهذه كتبي في أصول الفقه، أقول فيها: خلافًا للأشعرية، ثم قبل رأسه.
فقال له الشريف: قد كان ما تقول، إلاَ أنك لما كنت فقيرَاً لم تُظهِر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان خواجا بُزُرْك- يعني النظام- أبديتَ ما كان مخفيًا.
ثم قام أبو سعد الصوفي، فقبّل يد الشريف، وتَلطف به، فالتفت مغضباً وقال: أيها الشيخ، إنّ الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأَما أنت: فصاحبُ لهو وسَماع وتعبير فمن زاحمك على ذلك حتى داخلتَ المتكلمين والفقهاء، فأقمتَ سوق التعصب.
¥