وإذ قد تقرَّر أن التمثيل من عبادات الكفار، ثم صار من عاداتهم، وتقرَّر ضابط المشابهة عند أهل السنة والجماعة؛ فلا بأس بإيراد بعض الأدلة الصحيحة الصريحة النَّاهية عن التشبه بالمشركين في كلِّ ما هو من خصائصهم ...
فساق الشيخ عدداً من الأدلة المحرِّمة التَّشبُّهَ بالمشركين, ثم قال:
«ولو لم يكن في الأدلة المحرِّمة لهذا «التمثيل» إلا هذا الدليل [الحديث السابق] لكان كافياً في إثبات حرمته قطعاً، وإبطال قول من قال بالجواز تعلُّقاً بشبه لا تثبت أمام هذا الدليل الجبل الذي بنى عليه العلماء أحكاماً كثيرة, وأخذوا منه قواعد صلبة تحكم سير المستجدات في بحر الفقه الإسلامي.
ومن العجب: أن بعض القائلين بجواز التمثيل قد منعوا أموراً؛ لأنها مشابهة للكفار في عاداتهم وتقاليدهم, وهاهم يجيزون التشبه بهم في عباداتهم وشعائرهم .. !!
فإلى الله المشتكى من هذا المنهج المضطرب الذي يحكمه السذاجة أو الهوى، وكم قد جني هذا المنهج البائس على أهل السنة والجماعة، وزعزع قواعدهم الراسية؛ حتى نال منها المبتدعة، وضربوا بعضها ببعض.
ولقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟». أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري».اهـ «إيقاف النبيل على حكم التمثيل» (ص44 - 48).
ثالثاً: أن التمثيل كذب وتصنُّع, فإمَّا أن يمثِّل الممثِّل شخصيَّة وهميَّة مختلقة, وإمَّا أن يمثِّل دور إنسان حقيقي له أصل ووجود وهو ليس به, وكلا الحالتين كذب! ولا شكَّ أن الكذب محرم, بل ومن كبائر الذنوب.
قال الشيخ عبد السلام بن برجس -رحمه الله-: «إن التمثيل لا يخلو من حالتين:
ـ إِمَّا أن يكون أسطورة خياليَّة، لا واقع لها ولا حقيقة.
ـ وإِمَّا أن يكون واقعة سالفة، قام بها أشخاص معيَّنون، على سبيل الحقيقة.
وعلى كلا الحالتين فهو حرام، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع العلماء.
أما الحالة الأولى: فهي كذب, والكذب محرم. ووجه كونها كذباً أمور, منها:
1ـ تسمية القائمين بها بغير أسمائهم.
2ـ الانتساب إلى غير الأب الحقيقي.
3ـ تقمُّص شخصية غير شخصية الممثل كقاضٍ، وطبيب، وبائع ...
4ـ الأَيْمان التي تقع على أمرٍ ماضٍ أو حاضر يعلم كذبه وتخيُّله.
5ـ التظاهر بالأمراض والعاهات، أو الجهل، أو الخبال، وقد عُلِمَ ضِدُّه.
6ـ الخروج بمظهر الصلاح الكامل، أو الفساد الكامل، أو الوسط.
فالأول: إن سلم من الكذب فهو تزكية. والثاني: إن سلم -أيضاً- من الكذب فهو هتك لستر الله.
وهذه الأوجه وغيرها مما يتضمن الكذب، لا تخلو منها «تمثيلية» قط؛ لعدم تصور الإبداع في غيرها.
فمنع التمثيل لهذا الدليل قوي، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرَّم الكذب، ولم يرخِّص فيه إلا في مواضع سيأتي تناولها، وخلاف العلماء في المراد بها ..
ثم قال: الحالة الثانية من حالات التمثيل:
إذا كان «التمثيل» لواقعة سالفة، فإن وجه تحريمه أمور، منها:
1ـ الكذب .. 2ـ التشبُّع بما لم يُعْطَ .. 3ـ الإفضاء إلى استنقاص الأموات وذكر مساوئهم .. 4ـ الغيبة .. ».اهـ «إيقاف النبيل على حكم التمثيل» (ص49 - 56).
قلت: وإذا كان بعض السلف يعدُّ مجرد لعب الشطرنج كذباً كون لاعبه يدَّعي شيئاً لم يفعله, فكيف بما هو أعظم؟!
فعن ابن أبي ليلى قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «إن أصحاب الشطرنج أكذب الناس، أو من أكذب الناس، يقول أحدهم قتلت وما قتل». «تحريم النرد والشطرنج للآجري» (1/ 30).
رابعاً: أنَّ في التمثيل مضيعةً للوقت الذي هو عمر المسلم, والذي سيسأل عنه يوم القيامة فيمَ أفناه؟ وفيه مضيعةٌ لماله الذي سيُسأل عنه -أيضاً- من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟
قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: «والتمثيل في مسلسلاته ومسرحيّاته التي تستغرق الساعات الطوال، عدوٌّ كاسر على وقت المسلم، وامتصاص للأموال، ولا سيما وقد صار حرفة، بل فنًّا له روّاده ومدارسه ومسارحه .. فكم بذل فيها من جهود، وكم أنفق فيها من مال، والنتيجة هُراء في هُراء، ورعونات يأنف من مشاهدتها الفضلاء». اهـ «حكم التمثيل» (ص38).
حكم التمثيل الدِّيني:
¥