تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأمر الثاني: أن المصلحة المرسلة تعتبر في دفع الضرر بشرط أن لا يرتكب ما هو أعظم وأشنع، ولهذا نجد من يسعى في تتبع المجاورين في الحرمين بناء على كون تتبعهم راجعا إلى المصلحة المرسلة، قد ارتكب ما هو أعظم منه وهو انتهاك حرمة البلد الأمين ولعله في الشهر الحرام، وحرمة المسلم أشد من حرمة الزمان والمكان، إذ الحرمة الزمانية والمكانية مسخرتان لحرمة المسلم ولأجل حفظه وعدم التعدي عليه، فارتكاب المفسدة عند تزاحمها واجتماعها منوط بشرط عدم وجود مفسدة أكبر منه، وهذا ما هو متعذر في مسألة المجاورة.

الأمر الثالث: أن القواعد العامة التي تنطبق على كل جزئياتها يعتريها استثناء لا محال، وهذا الاستثناء لا يقدح في شمولية القاعدة وانضباطها، ولكن بعض المسائل تَخرج عن هذا الشمول لعاملٍ خارجي، فلا يقدح بذلك في الأصل، وكون المجاورة – مع ثبوت النص- تستثنى من هذا العموم المبني على المصالح، لأن المفسدة فيها أكثرُ من المصلحة.

وخلاصة القول إن المصالح المرسلة نمط اجتهادي محتج به عند جماهير أهل الفن، ولكن اعتباره قاعدة أصلية من غير مراعاة شروطها، يجعلها تتوسع عن دائرتها المحددة، فتُسوَّغ بالمصالح أمورٌ لا أصل لها من الشرع، ولهذا دخل الناس في تعدي حرمات الله تعالى والابتداع والفجور، جراء هذا التمدد في استعمال القاعدة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جيد في هذا المعنى بيَّن فيه رحمه الله تعالى مدى وجوب التقيد بشروط العمل بالمصالح المرسلة حتى لا تخرج عن نطاقها المحدد لها، قال في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 594): فما رآه الناس مصلحة نُظر في السبب المحرج إليه: فإن كان السبب المحرج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منه، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعوا الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض زال بموته، وأما ما لم يَحدُث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لو كان مصلحة ولم يُفعل أنه ليس بمصلحة ... إلى أن قال: فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه، فوَضْعُه تغييرٌ لدين الله، وإنما أدخله فيه من نُسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد، أومن زل منهم باجتهاد .. فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) (الأحزاب: 41) وقوله تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33) أو يقاس على الأذان في الجمعة! فإن الاستدلال على حُسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع! بل يقال ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزال المانع: سنة كما أن فعله سنة .. ، فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزال لمانع له، لو كان خيراً. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس." انتهى.

وقال رحمه الله تعالى كما في مجموع الفتاوى (11/ 344): والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة، وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو إنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيراً ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون منفعته مرجوحة بالمضرة. انتهى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير