ثانيا: الاعتراض على أي أمر من الأمور، وعلى أي قول من الأقوال يمكن نظيره بمثل هذه الاعتراضات، وبمثل هذه التلبيسات، فكل ما ذكره يمكن إيراد مثله على أي مسألة من مسائل الشرع، فيلزم من ذلك أحد أمرين: إما أن لا يقر بشرع ولا يعترف بدين، وهذا كفر مبين، وإما أن يجيب عن هذه الاعتراضات بجوابات صحيحة، فما كان جوابه عنها فهو جوابه هنا ولا فرق بين الموضعين.
ثالثا: لو افترضنا أن هذه اللوازم تلزم القائلين بإثبات الصفات، وافترضنا أن هذه اللوازم فيها شناعة أو تناقض أو نحو ذلك، فإننا نلزم القائلين بالتفويض أو بالنفي لوازم أكثر شناعة وأعظم تناقضا، وأكبر طعنا في الشرع وفي صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم،
فإذا كان أي قول من الأقوال يسقط لما يلزمه من الشناعات لزم سقوط مذهبهم، وإن كان يمكنهم قبول قولهم بما فيه من الشناعات لزمهم قبول قولنا لأنه أقل شناعة.
رابعا: أنتم فرقتم بين الصفات، فقبلتم سبعا منها، ورفضتم الباقي، وجميع هذه الاعتراضات التي ذكرتموها واردة على القسمين جميعا، فما كان جوابكم عنها في السبع فهو جوابنا في الباقي.
خامسا: جميع الاعتراضات المذكورة يستطيع الفلاسفة أيضا استعمالها في إنكار المعاد الجسماني، ويستطيع الباطنية استعمالها في إنكار ظواهر الشريعة، وأنتم كفرتموهم بهذا القول، ولهذا قال بعض الحذاق: إن مذهب الفلاسفة أقرب للعقل من مذهبكم، فإن كانت هذه الاعتراضات باطلة سقط كلامكم، وإن كانت هذه الاعتراضات صحيحة لزمكم قبول مذهب الفلاسفة والباطنية.
سادسا: أنتم بنيتم مذهبكم على عدد من الكلمات مثل (الجهة والتحيز - التجسيم - القدم والحدوث - الجوهر الفرد - التركيب - .... إلخ)، ومعلوم أن حقائق هذه الألفاظ في اللغة يختلف عن المعاني التي تفهمونها من هذه الألفاظ، فإن كانت هذه المعاني التي أثبتموها لهذه الألفاظ صحيحة لزمكم إثبات معانٍ ليست مذكورة في المعاجم وحينئذ يبطل كلامكم، وإن كانت هذه المعاني باطلة سقط مذهبكم.
سابعا: حقيقة التفويض (عدم الإثبات وعدم النفي)، وأنتم تفوضون المعنى وتنفون ظاهر اللفظ، وهذا مخالف لعموم التفويض، فيلزمكم أن تفوضوا أيضا في ظاهر اللفظ فلا تنفوه كما لا تثبتوه، وحينئذ لا يصح أن تحكموا على الإثبات بخطأ أو صواب، فيلزمكم ألا تحكموا على مذهبنا بأنه خطأ، ونحن نحكم على مذهبكم بأنه خطأ مخالف لإجماع سلف الأمة، ولا شك أن القاطع بقوله أولى بالقبول من المتردد.
ثامنا: الله عز وجل خاطب عباده بكلامه وتعبدهم به وفرضه عليهم قبل تعجيم المعاجم، وقبل تصنيف كتب اللغة، فإن كان المرجع في فهم الخطاب لا يمكن ولا يصح ولا يصلح إلا بالرجوع إلى هذه المعاجم لزمكم إبطال لزوم الشرع للناس قبل ذلك، وإن جوزتم فهم الكلام استنادا إلى غير هذه المعاجم بطل مذهبكم.
تاسعا: الناس منذ أن خلق الله آدم إلى الآن يتفاهمون فيما بينهم ويتكلمون بكلام مفهوم لمن حولهم، والطفل يسمع كلام أبيه أو أمه فلا يشك في مقصد أحدهما، والإنسان يسمع كلام صديقه أو جاره فيقطع بمراده من هذا الكلام، وهؤلاء جميعا لا يرجعون إلى معجم ولا يستندون إلى كتاب لغوي في معظم الأحيان، ولم يمنع هذا من فهمهم للكلام بل قطعهم بمقصود المتكلم.
عاشرا: العربي القح الذي عاش حياته كلها في بادية لا يرى إلا الصحراء والشمس والناقة والخيمة، إذا قلت له: إن أعظم ملك من ملوك الدنيا يسكن في بيت - لم يشك لحظة إن كان ذا عقل سديد أن بيت هذا الملك لا يشبه بيته المصنوع من الشعر! ومع ذلك فهو لا يشك لحظة إن كان ذا عقل سديد أن بيت هذا الملك مفهوم المعنى.
حادي عشر: الإنسان لا يستطيع أن يتصور المعاني المجردة في الذهن إلا بتصور أشباهها في الخارج، ومع ذلك فهو يعرف ويقطع بأن المعاني المجردة ليست هي الموجودة في الخارج، لأن المعاني المجردة ليست ذات وجود حقيقي في الخارج، وإنما هي تقديرات ذهنية، فإذا رأيت فرسا وأسدا وفيلا وغيرها من أصناف الحيوان، فأنت تقدر في الذهن معنى مجردا هو الحيوان، ولكن هذا المعنى الذي هو (الحيوانية) ليس له وجود في الخارج، وإنما هو تقدير ذهني، وهذا التقدير الذهني يستطيع أي عاقل أن يفترضه ويتصوره في ذهنه، ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يذكر لك المعنى المشترك بين هذه الأصناف، وإن كان لا يشك لحظة إن كان عاقلا أن معنى الحيوانية مفهوم عنده.
ثاني عشر: الشريعة جاءت بإثبات هذه الصفات، وأمرت بالتعبد بها، وتمدح بها رب العالمين، وأمرنا أن نثني عليه بها، ونحن وأنتم لا نتنازع في أن ظواهر النصوص الشريعة إثبات هذه الصفات، ولكن خلافكم فقط في وجوب نفي هذه الظواهر، ويلزم من ذلك إما تمدح رب العالمين بما ليس مفهوما لنا، وهذا خلاف الغرض من التشريع، وإما ترك التعبد بها مطلقا، وهو خلاف إجماعنا وإجماعكم.
ثالث عشر: إن جاز لكم هذا التفويض مع نفي الظواهر في النصوص الشرعية، جاز مثله في كلام الصحابة الذين نقلوا لنا الشريعة، وجاز مثله في كلام من بعدهم من أهل العلم، وجاز مثله في المعجمات التي تعتمدون عليها وأنتم أجهل الناس بها، ويلزم من ذلك أن لا يُوثق بكلام أحد من الخلق، ولا يقطع بمراد فرد من الناس، وأن لا يمكن إقامة الحجة من دين رب العالمين، والعجيب أن هذا ما صرح به إمام أئمتكم أبو عبد الله الرازي، فذكر أنه لا يمكن القطع بالسمعيات مطلقا سواء منها المتواتر والآحاد، ولما بلغ هذا الكلام أبا عمرو بن الصلاح قال: عليه لعنة الله، طعن في الشريعة وأسقطها جملة!
رابع عشر: جميع ما ذكرته سابقا هو من الجوابات الجملية والاعتراضات الكلية لإسقاط كلامكم ومذهبكم، وأما الجواب المفصل فمن مئات الوجوه التي فصلها أهل السنة في كتبهم بما لم يدع مقالا لقائل، ولكن المشكلة أنكم لا تقرءون!
وأكاد أقطع أنْ لو كان قرأ أئمتكم كتاب (بيان تلبيس الجهمية)، وكتاب (درء تعارض العقل والنقل) وغيرها من الكتب المطولة لرجعوا عن أقوالهم إلى أقوال أهل الإثبات.
¥