وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ النفس يراد به صفة موصوف، لا في ذكر الخالق ولا في ذكر المخلوق .... فمن حمل قوله (على نفسه) أنه صفة من صفاته، فقد حمل على غير لغة العرب التي أنزل الله بها كتابه .... نعم يوجد في كلام بعض المولدين / ما يشبه أن يكون لفظ النفس صفة، كما يقولون: فلان له نفس، وفلان ليس له نفس، واترك نفسك وتعال، ونفسك حجابك، ونحو ذلك. فإن مقصودهم الصفات المذمومة، كالأهواء المتبعة، من الشهوة والغضب ونحو ذلك، وهذا ليس من اللغة التي يجوز حمل كلام الله ورسوله عليها، إذ مثل هذا لا يوجد إلا في كلام المتأخرين، وذلك -والله أعلم- أن هذا مثل قولهم: فلان له يد، وله لسان، أي يد باطشة ولسان ناطق، فيطلقون اسم الذات ويريدون به الصفة المشهورة فيها. فقول القائل: اترك نفسك، أو له نفس ونحو ذلك يريد به الذات على الصفة المخصوصة، وهي الصفة المذمومة، كما يقال: أمسك لسانك واكفف يدك، أو له لسان وله يد.
465
فمن اعتقد أن مسمى النفس في الخالق والمخلوق صفة وعرض لا موصوف وجوهر، وجعل مسمى لفظها من جنس مسمى لفظ الحياة والبقاء، فقد غلط على اللغة، وغلط على القرآن والحديث.
قالوا: وهذا يؤدي إلى جواز القول بأن الله نفس، وأنه يجوز أن يدعى فيقال: يا نفس اغفر لنا، وقد أجمعت الأمة على منع ذلك.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا منقوض عليهم بلفظ ذات، وموصوف وقائم بنفسه، وحقيقة وبائن من خلقه، ونحو ذلك، فإنه إن جاز أن يقال: يا ذات يا موصوف يا قائما بنفسه يا حقيقة يا بائنا من خلقه، اغفر لنا، جاز أن يقال: يا نفس، وإلا فلا.
الثاني: أن الله إنما يدعى بأسمائه الحسنى وهي الأسماء التي تدل عليه نفسه. وتبين من أوصافه ما فيه حمد وثناء عليه، فأما الألفاظ التي لا تدل إلا على مطلق الوجود ونحوه فلا يدعى بها، كما أنه سبحانه لا يدعى بالأسماء الدالة على خلقه للضرر / إلا مقرونا بالأسماء التي تدل على خلقه للنفع، فلا يقال: يا ضار ولا يا مانع، إلا مقرونا بيا نافع ويا هادي، ويا معطي، فإن الاقتران يقتضي عموم القدرة والخلق والحكمة، وهذا من أسمائه الحسنى بخلاف إفراد أحدهما.
الثالث: أن هذا يرد عليهم فيما ادعوه، فإنهم جعلوا له نفسا هي صفة، فينبغي أن يقال: يا ذا نفس اغفر لنا.
فإن قيل: الإضافة تقتضي المغايرة بين المضاف والمضاف إليه فلا يكون هو نفسه المضافة إليه.
قيل: لا نزاع بين أهل اللغة أنه يقال: رأيت زيدا نفسه وعينه وهذا هو زيد نفسه وعينه.
468
وهذه المادة (ن ف س) في لغة العرب تعطي الفعل والحياة، وسموا الدم نفسا لأنه مادة حياة الأجسام الحيوانية، وهو حامل البخار الذي هو الروح الحيواني، ففيه الحياة والحركة، ولهذا أمر بسفحه من الحيوان وحرم / أكله؛ لأنه يولد على آكله البغي والاعتداء في القوة النفسانية.
وكذلك الهواء الداخل والخارج سموه نفسا؛ لما فيه من الحياة والحركة، وكذلك المتفلسفة يفرقون بين العقل والنفس، بأن العقل مجرد عن المادة وعلائقها والنفس تتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصريف.
470
وأما التعبير بلفظ النفس عن العقل فهذا ليس من لغة العرب أصلا.
476
وأما قول المؤسس: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك.
فلا ريب أن هذا المعنى داخل في الآية، لكن تفسيرها بمجرد هذه العبارة ليس بسديد، فإن معلوم الله ومعلوم عيسى ليس واحدا منهما في النفس .... ودلالة اللفظ على بعض المعاني لا يمنع دلالته على غيره.
477
وكذلك ما ذكره آخرون كابن فورك أن المعنى تعلم ما في نفسي أي في غيبي ولا أعلم ما في نفسك أي في غيبك.
يقال لهم: إن جعل لفظ النفس بمعنى الغيب فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آيات الله وأسمائه. وإن أريد أنك تعلم ما أغيبه في نفسي ولا أعلم ما تغيبه / في نفسك، فهذا صحيح لكنه تطويل بلا فائدة، والآية أوضح من هذا.
483
لكن الجهم أوسع إنكارا من هذا المؤسس وذويه، وإنما أنكر الجهمية هذا؛ لأن الله عندهم لا يتكلم ولا يذكر ولا يقوم به ذكر، وإنما الكلام المضاف إليه عندهم ما يخلقه في الهواء. وهذا إنما يصلح إذا خلقه / لمن سمعه من الملائكة والبشر. فإذا كان الذكر في نفسه لم يسمعه، وهذا الحديث نص صريح في إبطال مذهبهم.
¥