وأما الكلابية والأشعرية فإنهم لا ينكرون أن يقوم بذاته ذكر هو الكلام النفساني، لكن لا يجوز عندهم التفريق بين الإعلان والإسرار. فإن المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الرب، وشيء من الملائكة عندهم. أكثر ما يقوله بعضهم: أنه قد يسمع الملائكة ما يسمعهم إياه، فيكون التخصيص في خلق الإدراك للملائكة، والحديث نص في الفرق بين ذكره في نفسه وبين ذكره في الملأ بفرق يرجع إلى نفسه لا إلى خلق إدراك الملائكة.
فالحديث نص في إبطال قول هؤلاء أيضا، والحديث مستفيض في الصحيح
535
من سلف الأئمة من قال هذا وهذا، ومثل هذا كثيرا ما يجيء في تفسير معاني أسمائه، كالرحمن والجبار والإله وغير ذلك، وقد قررنا في غير هذا الموضع أن عامة تفاسير السلف ليست متباينة، بل تارة يصفون الشيء الواحد بصفات متنوعة، وتارة يذكر كل منهم من المفسر نوعا أو شخصا / على سبيل المثال لتعريف السائل، بمنزلة الترجمان الذي يقال له: ما الخبز؟ فيشير إلى شيء معين على سبيل التمثيل.
542
المقصود الآن ذكر أقوال السلف في معنى الصمد، وأما ما يدعيه طائفة من المتأخرين من أن الاشتقاق إنما يشهد لقول من قال: إنه السيد، فسنبين أن هذا من أفسد الأقوال، بل شهادة اللغة والاشتقاق لذلك القول الذي قاله جمهور الصحابة والتابعين أقوى، وإن كان ذلك كله حقا، والاسم يتناول ذلك كله، واللغة والاشتقاق يشهد له.
544
وهذا كله مما يوجب توفر الهمم والدواعي على معرفة معنى الصمد، وهذا أمر يجده الناس من نفوسهم، فإنه إذا قرأها الإنسان مرة بعد مرة اشتاق إلى معرفة معنى ما يقول، والنفس تتألم بأن تتكلم بشيء لا تفهمه. فالمقتضي لمعرفة هذا الاسم كان فيهم موجودا قويا عاما، متكررا. والمانع من ذلك منتفٍ، وأنه لا مانع لهم من المسألة عن هذا الاسم
546
فحكم التابعين مع الصحابة كذلك، فإن الهمم والدواعي من علماء التابعين متوفرة على مسألة الصحابة عن معنى هذا الاسم، هذا معلوم بالعادة المطردة، فإذا كان قد تواتر عن أئمة التابعين، مع ما نقل عن الصحابة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اشتهر عندنا نقل ذلك بالإسناد عمن نقله العلماء عنه؛ لأن العلم كان يقل في المتأخرين، وكان أحدهم يسأل من يتفق له من التابعين، فصاروا ينقلون ذلك نقلا خاصا، كما ورد مثل ذلك فيما كان معلوما عند الصحابة كلهم، كمغازي النبي صلى الله عليه وسلم وصفة صلاته الظاهرة وحجه ونحو ذلك، حتى تنازع بعض الناس في مثل جهره بالبسملة وقنوته.
ومن المعلوم أن هذا كان يمتنع فيه النزاع على عهد أبي بكر وعمر؛ لأن الصحابة الذين عاينوا ذلك كانوا موجودين، ولهذا يستدل بفعل أبي بكر وعمر على أن ذلك هو كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ للعلم بأن الصحابة لم يتفقوا على تغيير سنته.
561
ليس للمتكلم أن يريد باللفظ ما ليس هو حقيقة اللفظ ومسماه، بل هو مجاز، إلا بقرينة تبين المراد، وإلا فالتكلم بالمجاز بدون القرينة ممتنع باتفاق الناس، وهو بمنزلة أن يراد باللفظ ما لم يوضع له في اللغة. كما لو أراد بلفظ السماء الأرض وبلفظ الشمس البحر ونحو ذلك.
[انتهت الفوائد المنتقاة من المجلد السابع بحمد الله]
وأما فوائد المجلد الثامن فقد تقدمت في المشاركات الأولى.
وبهذا تنتهي الفوائد المنتقاة من هذا الكتاب القيم النفيس.
وجزى الله شيخ الإسلام خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين.