وهم على النقيض من الطائفة الأولى، فبينما نرى الطائفةَ الأولى تقدِّسُ التقليدَ الذي ليس عليه دليلٌ من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، بينما نراهم كذلك: نطالِعُ هنا موقفاً مناقِضاً لذلك الموقف، وهو تشويهُ «التقليد» حتى وإن كان موافقاً لما جاء به الكتاب والسنة، بل يكون مما يجب على المسلم القولُ به واعتقادُه.
وينبغي أن يُعرَف هنا: أن المتكلمين لا يختلفون في تعريف التقليد عن بقية الأصوليين، فالتقليدُ عندهم – كما هو عند غيرهم – هو: قبولُ قول الغيرِ بلا حجةٍ ولا دليل (5).
وبعضُهم عرَّفوه بأنه: «قبولُ قول الغير من غير أن يُطالِبَه بحجةٍ وبيِّنة» (6).
وهذا التعريفُ لا يختلف عن التعريف الأولِ سوى أنه زادَ عدمَ المطالبة بالحجة والبيِّنة، ومؤدَّى التعريفَين واحد.
ومع اتفاق المتكلمين مع غيرهم في تعريف التقليد: إلّا أنهم يُطلقون «المقَلِّدَ» على كلِّ مَن لا يقول بالـ «ـنَّظَرِ الكلامي»، فالتقليدُ عندهم: الإيمانُ بالله تعالى دون الاعتماد على الأدلة الكلامية التي يُوصَل إليها بالنظر، ولا يَخرج الإنسانُ عن دائرة التقليد عندهم حتى ولو كان إيمانُه بناءً على نصوص الكتاب والسنة؛ إذ المُخرِج من التقليد عندهم هو النظرُ الكلاميُّ المعروف عندهم.
ومما يتصل بالموضوع: أن المتكلمين يختلفون مع أهل السنة في قضية مهمة تتفرع عنها مسائل عديدة، وهي مسألة «فِطْرِيَّةِ معرِفةِ الله تعالى»، فمذهبُ أهل السنة أن معرفة الله تعالى فطريةٌ، بينما يذهب المتكلمون من المعتزلةِ، ومَن تبعَهم من الأشاعرة والماتريديّة إلى أنّ معرفة الله تعالى ليست فطريّة، ولذلك أوجبوا النظرَ العقليَّ لِيُتَوَصَّلَ به إلى معرفة الله عز وجل، وهذا النظرُ العقليُّ هو الذي يُخرجُ الإنسانَ – عندهم – عن التقليد.
والمرادُ بالنظرِ هنا: هو «النظرُ في الأدلة؛ ليتوصلَ بها إلى المعرفة» (7).
وقد صرّحَ المتكلمون بأنّ «معرفةَ الله تعالى لا تُنالُ إلاّ بحجة العقل»، واستدلوا لذلك بأنّ ما عدا حجة العقلِ «فرعٌ على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيءٍ منها على الله والحالُ هذه: كنا مستدلين بفرع الشيء على أصله، وذلك لا يجوز» (8).
فخلاصةُ النظرِ عندهم: هو النظرُ العقليُّ في الأعراض، وملازمتِها للأجسام، دون اعتمادٍ على الوحي.
وقد أوجبوا هذا النظرَ على كلِّ أحد، ليتَوصَّلَ به إلى إثباتِ الصانع، بل جعلوه أولَ واجبٍ على المكلف.
يقولُ عبد الرحمن النيسابوري (ت478): «أولُ واجبٍ على المكلَّف: القصدُ إلى النظرِ الصحيح، المؤدّي إلى العلمِ بحدوث العالم، وإثباتِ العلمِ بالصانع، والدليلُ عليه: إجماعُ العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى، وعلِمنا عقلاً: أنه لا يعلم حدوثُ العالَم، ولا الصانع: إلاّ بالنظرِ والتأمُّل، وما لا يُتوَصَّلُ إلى الواجبِ إلاّ به فهو واجبٌ» (9).
ومما يتصلُ بهذا الموضوع أيضاً: حكمُ مَن آمَنَ بدون النظرِ والاستدلال، وهذه المسألةُ هي المسألةُ المعروفةُ في كتب الكلام بمسألة «إيمان المقلِّد»، وقد اختلفوا في إيمانِه اختلافاً عريضاً.
وأكثرُهم على أن إيمان المقلد لا يخلو من إشكال، وأن المقلدَ عاصٍ بترك النظر إذا كان أهلاً له (10)، يقول المقّري في ذلك (11):
أول واجب على المكلف ... إعمالُه للنظر المؤلف
إلى أن قال:
وفي المقلد اختلافٌ مستطر ... لأن إيمانَه على خطر
وأكثرُ المتكلمين على أنّ إيمانَ المقلِّدِ صحيحٌ على ما فيه، وذهبَ الأشعريُّ والمعتزلةُ وكثيرٌ من المتكلمين إلى عدم الاعتداد بإيمانه.
وبقطع النظرِ عن صحيحِ أقوالِهم من سقيمها، إلاّ أنّ طريقةَ طرحِهم للموضوع، وتفاصيلهم المتجاذِبةِ فيه: يدلُّ على تهوُّرِهم فيه، ومدى اغترارِهم بمبادئهم الباطلة، إذ بلغ بهم الأمرُ إلى الاختلافِ في إيمان جمهرةِ الأمة.
وهذا التهور قد سجَّله عليهم أحدُ أئمةِ المتكلِّمين أنفسِهم -وهو الغزالي- إذ يقول: «من أشد الناس غلواً وإسرافاً: طائفةٌ من المتكلمين كفّروا عوام المسلمين، وزعموا أن مَن لا يعرف الكلامَ معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعيةَ بأدلتنا التي حررناها: فهو كافر.
فهؤلاء ضيقوا رحمةَ الله الواسعة على عباده أولاً، وجعلوا الجنةَ وقفاً على شرذمةٍ يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواترَ من السنة ثانياً» (12).
¥