تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والصحيح أن إيمان المقلد صحيح ولا إشكالَ فيه.

بل التقليد الذي يذمُّه المتكلمون هو صريحُ الإيمان، ذلك أنهم قد عرّفوا «التقليدَ» بأنه: «قبولُ قولِ الغير بلا حجة ولا دليل»، ولا شكّ أنّ المقلدَ الذي يختلفون في إيمانه لم يتبع إلاّ الكتابَ والسنة، فكيفَ يُتّهَمُ، مع ذلك، بالتقليد؟!

قال الإمامُ أبو المظفر السمعانِي رادًّا عليهم: «وقد قالوا: إنّ التقليدَ (قبولُ قولِ الغيرِ من غير حجة)، وأهلُ السنةِ إنما اتبعوا قولَ رسولِ الله، وقولُه نفسُ الحجة، فكيف يكون هذا قبولَ قولِ الغير من غير حجة؟!» (13).

وقال الحافظُ ابنُ حجر: «المذموم من التقليد: أخذُ قولِ الغيرِ بغيرِ حجة، وهذا ليس منه حكمُ رسولِ الله؛ فإنّ الله أوجبَ اتّباعَه في كل ما يقول، وليس العملُ فيما أمَر به أو نهى عنه داخلاً تحت التقليدِ المذمومِ اتفاقاً، وأمّا مَن دونه ممن اتّبعَه في قولٍ قاله، واعتقَدَ أنه لو لم يقله لم يقل هو به: فهو المقّلدُ المذموم، بخلاف ما لو اعتقَدَ ذلك في خَبَرِ الله ورسوله؛ فإنه يكون ممدوحاً ... » (14).

وأصلُ هذا البلاء: من قلةِ تعظيم المتكلمين للنصوصِ الشرعية، وقلةِ اعتبارِها، ومن إعلاء شأنِ العقلِ في كل شيء.

وقد صدق الإمام اللالكائي (ت418هـ) فيما ذكرَ أن المبتدعَ يعدُّ رأيَ النظّامِ (15)، والعلاّف (16)، والجبّائيِّ (17)، وابنِه (18)، وأمثالِهم: «حكمةً، وعلماً، وحججاً، وبراهين، ويَعُدُّ كتابَ الله وسنةَ رسولِه: حشواً، وتقليداً، وحملَتَها: جهالاً، وبُلْهاً (19) ... وإنما وجهُ خطئِهم عندهم: إعراضُهم عمّا نصبوا من آرائهم لنصرةِ جدَلِهم، وتركُ اتّباعِهم لمقالتِهم، واستحسانِهم لِمذاهبِهم، فهو كما قال الله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (20)، ثم ما قذفوا به المسلمين من التقليد والحشو: ولو كُشِفَ لهم عن حقيقةِ مذاهبِهم: كانت أصولُهم المُظلِمةُ، وآراؤهم المحدَثَةُ، وأقاويلُهم المنكَرة: بالتقليدِ أليق، وبما انتحلوها من الحشوِ أخلق؛ إذ لا إسنادَ له في تمَذهُبِه إلى شرعٍ سابق، ولا استنادَ لِمَا يزعمُه إلى قولِ سلفِ الأمةِ باتفاقِ مخالفٍ أو موافق ... فليس بحقيقٍ مَن هذه أصولُه: أن يعيبَ على مَن تقلّدَ كتابَ الله وسنةَ رسولِه، واقتدى بهما، وأذعنَ لهما، واستسلَمَ لأحكامهما، ولم يعترض عليهما بظنٍّ أو تخرُّص واستحالةٍ: أن يطعنَ عليه؛ لأنه بإجماعِ المسلمين على طريق الحقِّ أقوم، وإلى سبيل الرشادِ أهدى وأعلم، وبنورِ الاتباعِ أسعد، ومن ظلمةِ الابتداع وتكلفِ الاختراع أبعد، وأسلمُ من الذي لا يمكنه التمسُّكُ بكتابِ الله إلاّ متأوِّلاً، ولا الاعتصامُ بسنةِ رسولِ الله إلاّ منكِراً، أو متعجِّباً، ولا الانتسابُ إلى الصحابةِ والتابعين والسلفِ الصالحين إلاّ متمسخِراً مستهزئاً، لا شيءَ عنده إلاّ مضغُ الباطل، والتكذيبُ على الله ورسولِه والصالحين من عبادِه، وإنما دينُه: الضِّجاج (21)، والبقباقُ، والصياحُ، واللقلاق ... » (22).

وقال الحافظُ ابنُ حجر بعد مناقشتِه للمتكلمين في مسألة «التقليد»: «والعجَبُ: أنّ مَن اشترطَ ذلك من أهلِ الكلام يُنكِرون التقليدَ وهم أولُ داعٍ إليه، حتى استقرَّ في الأذهانِ: أنّ مَن أنكَرَ قاعدةً من القواعدِ التي أصّلوها فهو مبتَدِعٌ، ولو لم يفهمها ولم يعرفْ مأخذَها، وهذا هو محضُ التقليد، فآلَ أمرُهم إلى تكفيرِ مَن قلّدَ الرسولَ - عليه الصلاةُ والسلام - في معرفةِ الله تعالى، والقولِ بإيمانِ مَن قلّدَهم، وكفى بهذا ضلالاً ... » (23).

والخلاصةُ: أنّ ذنبَ مَن يسميه المتكلمون «المقلِّد» هو جهلُه أو إعراضُه عن طرقِ أولئك المتكلمين المبتَدَعة، ولم ينفعه اتباعُ الحُجَجِ من كتابِ الله وسنةِ رسولِه عند هؤلاء، وهذا من جهلِهم بضروريات الدين.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير