إن المطالعة الدَّقيقة لمجمل الآراء التي قدَّمها ابن خلدون في علم الكلام - سواء في» المقدمة «أو» لباب المُحصّل «أو» شفاء السَّائل وتهذيب المسائل «- تدلّ على معرفة ابن خلدون بهذا العلم، إلا أن هذه المعرفة لا تتجاوز ما أنتجه الأشاعرة في المشرق العربي، وخصوصًا ما وصل إلى المغرب من هذا الإنتاج الكلاميّ، كما سوف يظهر بشكلٍ جليٍّ في بحثنا.
فالعوامل التي أدَّت إلى نُضْج علم الكلام في المشرق لم تتوفّر في المغرب، إذ لم تشهد تحديَّات فكريَّة تُناهض العقيدة الدينيَّة كتلك التي تمثَّلت بالدِّيانة المسيَّحية واليهوديَّة والمذاهب المانويَّة والثنويَّة الفارسيَّة والبرهمية الهندية والفلسفة اليونانية وغيرها، والتي كانت سببًا أساسيًّا في نشأة علم الكلام الإسلامي وتطوره وازدهاره، عن طريق المعتزلة في أوائل القرن الثاني الهجري، ثم اتساعه على يد الأشاعرة والماتريدية وغيرها من الفرق.
أما الفكر الكلاميّ في المغرب فقد ظل دومًا تابعًا ومقلدًا لما كان يدور في المشرق، دون زيادة وابتكار في صلب المسائل والقضايا والتحديات، ويعود ذلك إلى هيمنة الفكر السلفيّ الذي يقوم على الإيمان بظواهر النصوص، وعدم التوسع في تأويلها بسبب سيطرة الفقه المالكي، والالتفاف والتمسك بمقولة الإمام مالك الشهيرة: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة». ([10])
ويمكن القول: إن دراسة الفكر الكلامي لهذا المفكر الإسلامي الكبير سوف يساهم في تجلية الأسس الدينية الإسلامية التي بنى عليها ابن خلدون فكره التاريخي، كما أنها تساعد على فهم الأثر العقدي الكلامي في تكوين شخصيته العلمية، وتتفحص مدى التزامه بالفكر الكلامي الأشعري والفقه المالكي، وتبرز مدى أصالته وجدّته وإبداعه.
وعمدنا في هذه الدراسة إلى استخدام المنهج التحليلي من خلال عرض فكر ابن خلدون الكلامي، وتحليل أفكاره التي وضعها في مؤلفاته، كما أننا توسلنا بالمنهج التاريخي بغرض تتبع تتطور الفكر الكلامي تاريخيا قبل ابن خلدون وفي عصره، الأمر الذي أفاد في معرفة الأصول والمرجعيات التي أخذ عنها ابن خلدون آراءه الكلامية، فضلا عن استخدام المنهج النقدي الذي يوفر مجالا خصبا لدراسة فكر ابن خلدون للتعرف والاطلاع على ما نعتقده خطأ منهجيا وقع فيه – حسب اعتقادنا – إن وجد.
وسوف نتناول في هذه الدراسة مجمل الأفكار المتعلقة بالفكر الكلامي عند ابن خلدون من خلال التعرض إلى أهم موضوعاته، والتي تدور على البحث في تعريف علم الكلام، وبيان منهجه ووظيفته، وعلاقة علم الكلام بالتصوف، ودور العقل في مسألة المعرفة، ثم البحث في مسألة الإلهيات وعلاقة الذات بالصفات، ثم عرجنا على موضوع النبوات، وتناولنا مسألة الإمامة لتعلقها بهذا العلم الجليل، وقد ختمنا هذه الدراسة بالتعرض لأهم النتائج والأفكار التي توصلنا إليها.
([1]) قدمت هذا البحث للندوة العلمية الإقليمية بعنوان: "عبدالرحمن بن خلدون: قراءة معرفية ومنهجية"
([2]) L`interieur du Maghreb, XVe-XIXe siecles, Paris, 1978; p 13.
والشدادي، عبد السلام، ابن خلدون من منظور آخر، ترجمة: محمد الهلالي وبشرى الفكيكي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2000، (ص 17).
([3]) حول اكتشاف ابن خلدون من قبل الغرب والمستشرقين على وجه الخصوص، يمكن الرجوع إلى ما يلي: الشدادي، عبد السلام: (ص 9 - 20).
عنان، محمد عبد الله، ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، القاهرة،، مصر، 1991م، ص (172 - 201).
الزيادي، محمد فتح الله، الاستشراق أهدافه ووسائله: دراسة تطبيقية حول منهج الغربيين في دراسة ابن خلدون، دار قتيبة، 1998م.
العظمة، عزيز، ابن خلدون وتاريخيته، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1987م، ص 17.
Franz Rosenthal, The Muqaddimah, An introduction to history, Princeton University Press, Princeton, 1967, p. LXVL-LXVLL.
G.Labica et Jamal Eddine Bencheikh, Extraits de al Muqaddimah, Centre Pedagogique Maghrebin-Hachette, Alger, 1965, p15-16.
([4]) جارديه، لويس، وقنواتي، جورج: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، نقله إلى العربية الشيخ الدكتور صبحي الصالح، والأب الدكتور فريد جبر، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية، 1978، الجزء الأول، (ص 128).
([5]) د. ميلاد، محجوب: مكانة ابن خلدون في تاريخ الفكر الإسلامي: ضمن كتاب «ابن خلدون والفكر العربي المعاصر»، الدار العربية للكتاب، الطبعة الأولى، 1984، (ص 255).
([6]) د. عفيفي، أبو العلا: موقف ابن خلدون من الفلسفة والتصوف، ضمن كتاب «مؤتمر ابن خلدون»، القاهرة، 1962، (ص 135).
([7]) د. فروخ، عمر: موقف ابن خلدون من الدين والقضايا الدينية ضمن كتاب «مؤتمر ابن خلدون»، القاهرة، 1962 (ص 407).
([8]) الأستاذ عبد الله عنان: «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري»، مؤسسة مختار، القاهرة، الطبعة الثانية، 1953، (ص 152).
([9]) لايبكا، جورج: «السياسة والدين عند ابن خلدون»، ترجمة د. موسى وهبة، ود. شوقي الدويهي، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 1980، (ص 26).
([10]) الجويني، «الشامل» دار المعارف، الإسكندرية، 1969، ص 571.
وروى هذا القولَ عن الإمام مالك جمعٌ غفير من أئمة الحديث وحفاظه، منهم: الدارمي في الرد على الجهمية: 280؛ والبيهقي في الأسماء والصفات: 515 - 516 بسند جيد (كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 13/ 407)؛ وأبو نعيم في الحلية (في ترجمة الإمام مالك): 6/ 326؛ والذهبي في العلو للعلي الغفار: 103 - 104، وذكر أن سند البيهقي صحيح.
يتبع ..
¥