تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إنّ سبب البدع المنتشرة في العالم الإسلامي قديما وحديثا هو ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة التي يظنّ الظانّ أنّه لا يدخل فيها إلاّ الحقّ وقد دخل فيها الحقّ والباطل فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلّم بها كما كان السلف والأئمّة يفعلون صار متناقضا أو مبتدعا ضالا من حيث لا يشعر، وكثير ممن تكلّم بالألفاظ المجملة المبتدعة كلفظ الجسم والجوهر والعرض وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنّهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة وإنّهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله، فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم (الجهمية والمعتزلة)، فإنّ البدعة لا تكون حقّا موافقا للسنّة، إذ لو كانت كذلك لم تخف على النّاس، ولكن تشتمل على حقّ وباطل، فيكون صاحبها قد لبّس الحقّ بالباطل إمّا مخطئا غالطا وإمّا متعمدا لنفاق فيه وإلحاد، ومن هذه البدع المحدثة مسألة اللفظ التي ظهرت زمان الإمام أحمد رحمه الله وهي من المسائل الدقيقة التي حصل فيها اضطراب بين النّاس عموما وبين أهل الحديث والسنّة خصوصا، وكان النّاس قد افترقوا حيث ظهرت هذه البدعة إلى أربع فرق:

- الأولى: الجهمية القائلين بخلق القرآن، تسّتروا بالقول ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ومرادهم أنّ كلام الله مخلوق اعتقاد أسلافهم.

- الثانية: طائفة شابهت الجهمية في قولهم، وهم الكلاّبية إتباع المتكلّم أبو محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب البصري (ت 240هـ/855م) الذين أطلقوا القول كالجهمية فقالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ومرادهم أنّ القرآن العربي الذي نزل به جبريل الذي هو الألفاظ المؤلفة من الحروف مخلوق وأنّ الله لم يتكلم بالحروف، إنّما كلامه معنى مجرد عن الألفاظ وهذا قديم غير مخلوق، وقالوا: إنّ التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء، وهؤلاء هم "اللفظية النافية" أو "اللفظية الخلقية" كما سمّاهم شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كلامه.

- الثالثة: طائفة من أهل الحديث كأبي حاتم الرازي محمد بن إدريس التميمي (ت 277هـ/891م) وأبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم القرشي الرازي (ت 264هـ/878م) وغيرهم لمّا رأوا أنّ مقالة الجهمية والكلاّبية باطلة فأرادوا تقويم السّنة فوقعوا في البدعة وردّوا باطلا بباطل وقابلوا الفاسد بالفاسد فقالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة وألفاظنا به غير مخلوقة لأنّ هذا هو القرآن والقرآن غير مخلوق، ولم يفرّقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيّد في الدلالة وبين حال المسمى إذا كان مجرّداوحاله إذا كان مقرونا مقيّدا وقالوا: التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وهؤلاء هم "اللفظية المثبتّة".

- الرابعة: طائفة أهل السنّة والجماعة أصحاب الحقّ والرأي السديد، منعوا إطلاق القولين، وقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرّف وهو كلام الله ووحيه وتنزيله بألفاظه ومعانيه ليس هو كلامه دون معانيه ولا معانيه دون ألفاظه وألفاظ العباد وأصواتهم مخلوقة والعبد يقرآ القرآن فالصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري عز وجل، قال ابن تيمية: "كلام أحمد في مسألة التلاوة والإيمان والقرآن في نمط واحد منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق لأنه يتضمن القول بأنّ من صفات الله ماهو مخلوق، ولما فيه من الذريعة ومنع أيضا إطلاق القول بأنّه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال.

وقد وقع الخلاف في هذه المسألة لدقتها وغموضها، بقول ابن قتيبة: "وإنّما اختلفوا في فرع لم يفهموه لغموض ولطف معناه، فتعلّق كل فريق منهم بشعبة منه ... " وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية حقيقة الغموض في هذه المسألة فقال رحمه الله: "ومنشأ النزاع بين أهل الأرض والاضطراب العظيم الذي لا يكاد ينضبط في هذا الباب يعود إلى أصلين:

- مسألة تكلّم الله بالقرآن وسائر كلامه.

- ومسألة تكلّم العباد بكلام الله

وسبب ذلك أنّ التكلم والتكليم له مراتب ودرجات وكذلك تبليغ المبلغ لكلام غيره له وجود وصفات، ومن النّاس من يدرك من هذه الدرجات والصفات وبعضها ربمّا لم يدرك إلاّ أدناها ثمّ يكذب بأعلاها، فيصيرون مؤمنين ببعض الرسالة كافرين ببعضها ويصير كل من الطائفتين مصدقة بما أدركته مكذبة بما مع الآخرين من الحقّ".

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير