وكان أوّل من تكلّم في اللفظ رجل من أهل العلم، وهو أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكراييسي البغدادي (ت 248هـ/862م). قال الذهبي: "وكان من بحور العلم ذكيّا فطنا لسنا، تصانيفه في الفروع والأصول تدلّ على تبحره إلاّ أنّه وقع بينه وبين الإمام أحمد، فهجر لذلك، وهو أول من فتق اللفظ ولمّا بلغ يحيى بن معين أنّه يتكلم في أحمد قال: ما أحوجه إلى أن يضرب وشتمه"، وقال: "قال حسين: لفظي به مخلوق فبلغ قوله أحمد فأنكره وقال: هذه بدعة، فأوضح حسين المسألة وقال: تلفظك بالقرآن يعني غير الملفوظ وقال في أحمد: أيّ شيء نعمل بهذا الصّبي؟ إن قلنا: مخلوق قال بدعة وإن قلنا: غير مخلوق قال بدعة فغضب لأحمد أصحابه ونالوا من حسين".
واللفظية النافية، كما قدّمنا هم القائلون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وأنّ التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء، والكتابة غير المكتوب وهي مخلوقة، والمتلو المقروء غير مخلوق وهو غير مسموع فإنّه ليس بحروف ولا أصوات، ومرادهم بالتلاوة والقراءة نفس ألفاظ القرآن العربي الذي سمع من النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمتلو المقروء عندهم هو المعنى القائم بالنّفس وهو غير مخلوق وهو اسم القرآن، فإذا قالوا القرآن غير مخلوق أرادوا به ذلك المعنى وهو المتلو المقروء وأمّا المقروء المسموع المثبت في المصاحف فهو عبارة عنه وهو مخلوق.
وقد كان إنكار الإمام أحمد على هذه الطائفة أكثر وأشهر وأغلظ لوجهين:
الأول: إنّ قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي وجانب النفي أبدا شر من جانب الإثبات، فإن الرسل جاءوا بالإثبات المفصل في صفات الله وبالنفي المجمل، فوصفوه بالعلم والرحمة والقدرة والحكمة والكلام والعلو وغير ذلك من الصفات، وفي النفي "ليس كمثله شيء" و"لم يكن له كفؤا أحد". وأمّا الخارجون عن حقيقة الرسالة من الصابئة والفلاسفة والمشركين وغيرهم ومن تجهّم من أتباع الأنبياء فطريقتهم "النفي المفصل" ليس كذا، ليس كذا، وفي الإثبات أمر مجمل ولهذا يقال: المعطل أعمى والمشبّه أعشى فأهل التشبيه مع ضلالهم خير من أهل التعطيل.
والثاني: أنّ أحمد -رحمه الله- إنّما ابتلي بالجهمية المعطلة فهم خصومه فكان همّه منصرفا إلى ردّ مقالاتهم دون أهل الإثبات فإنّه لم يكن في ذلك الوقت والمكان ممّن هو داع إلى زيادة في الإثبات، كما ظهر من كان يدعوا إلى زيادة في النفي والإنكار يقع بحسب الحاجة، والبخاري لمّا ابتلي باللفظية المثبتة ظهر إنكاره عليهم كما في تراجم آخر كتاب الصحيح و في كتاب خلق الأفعال مع أنّه كذّب من نقل عنه أنّه قال: لفظي بالقرآن مخلوق من جميع أهل الأمصار.
وقد نقل غير واحد من العلماء نصوصا عن أئمّة السلف في الردّ على من قال: "لفظي بالقرآن مخلوق" وهذه النصوص على قسمين: قسم جعل اللفظية من الجهمية وقسم جعلهم من المبتدعة، وهذه بعضها:
1. سئل الإمام أحمد عن الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة. فقال هم شرَ من الجهمية ومن زعم هذا فقد زعم أنَ جبريل جاء بمخلوق وأنَ النَبي صلََى الله عليه وسلَم تكلَم بمخلوق.
2. قال يعقوب الدورقي قلت لأحمد بن حنبل: هؤلاء الذين يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق؟ فقال: القرآن على أيَ جهة كان لا يكون مخلوقا أبدا، قال الله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" (التوبة 6) ولم يقل حتى يسمع كلامك يا محمد فقلت له: إذا يدور هؤلاء على الإبطال والتعطيل، قال: نعم، وقال أحمد بن حنبل: عليهم لعنة الله.
3. قال أبو بكر المروزي: قلت لأبي عبد الله: إنَ رجلا من أصحابنا زوّج أخته من رجل فإذا هو من هؤلاء اللفظية، يقول لفظي بالقرآن مخلوق، وقد كتب الحديث فقال أبو عبد الله: "هذا شرَ من جهميَ" قلت: فتفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت: فإن أخاها يفرق بينهما؟ قال: قد أحسنت، وقال: "أظهروا الجهميَة هذا كلام ينقض آخره أوله"، قلت لأبي عبد الله: إنَ الكرابيسي يقول: من لم يقل لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، قال: "بل هو الكافر"، وقال: "مات بشر المريسي وخلفه حسين الكرابيسي" وقال: "بلغني عن جهم أنَه قال بهذا في بدء أمره".
4. قال الإمام أحمد بن صالح أبي جعفر المصري المعروف بابن الطبري (ت248هـ/862م): لفظنا بالقرآن هو الملفوظ والحكاية هي المحكي وهي كلام الله غير مخلوق، من قال: لفظي به مخلوق فهو كافر".
¥