تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكلَ هؤلاء (اللفظية المثبتة) من أهل العلم والسنَة والحديث، وهم من أصحاب أحمد بن حنبل ولهذا قال ابن قتيبة: "إنَ أهل السنَة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلاَ في مسألة اللفظ" وصار قوم يطلقون بأنَ التلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء وليس مرادهم بالتلاوة المصدر، و الإنسان إذا تكلَم بالكلام فلا بدَ من حركة وممَا يكون من الحركة من أقوالهم الَتي هي حروف منظومة ومعان مفهومة، والقول والكلام يراد به تارة، المجموع فتدخل الحركة في ذلك ويكون الكلام نوعا من العمل وقسما منه ويراد به تارة ما يقترن بالحركة ويكون عنها لا نفس الحركة فيكون الكلام قسما للعمل ونوعا آخر ليس هو منه، ولهذا تنازع العلماء في لفظ العمل المطلق: هل يدخل فيه الكلام؟ على قولين معروفين لأصحاب أحمد وغيرهم وبنوا على ذلك ما إذا حلف لا يعمل اليوم عملا فتكلم، هل يحنث أم لا؟ على قولين، وذلك لأنَ لفظ الكلام قد يدخل في العمل وقد لا يدخل، فالاول: كما في قول النَبي صلَى الله عليه وسلَم: "لا حسد إلاَ في اثنين، رجل أتاه الله القرآن فهو يتلوه أناء اللَيل والنَهار، فقال رجل: لو أنَ لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان"، لقد جعل فعل هذا الذي يتلوه أناء اللَيل والنَهار عملا كما قال: لعملت مثل ما يعمل فلان.

والثاني: كما في قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" (فاطر 10) وقوله تعالى: "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون عمل إلاَ كنَا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه" (يونس 61) فالذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل السنَة قصدوا أنَ التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة وهي كلام الله المتلو، وآخرون قالوا بل التلاوة غير المتلو والقراءة غير المقروء والذين قالوا ذلك من أهل السنَة والحديث أرادوا بذلك أنَ أفعال العباد ليست هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري وهو مقصود صحيح، والإمام أحمد رحمه الله منع إطلاق هذا اللفظ (ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة) لأنَه لفظ مبتدع لم يتكلَم فيه السَلف وأيضا لما يجرّ من الوقوع في المحذور كما جرّ بعض من جاء بعد من إتباع هذه المقالة فمنهم من توقَف هل يدخل في اللفظ صوت العبد وحركته أم لا؟ وتجرَأ آخرون فأدخلوا فعل العبد وحركته وصوته، كما قدَمنا.

وهذا سياق لبعض ما تيسَر الوقوف عليه من كلام أئمَة السنَة في شأن هذه الطائفة:

قال أحمد بن الحسن بن علي البزوري أبو بكر الطبري: سمعت أبا عبد الله حين سأله رجل عن اللفظ فقال له: يا أبا عبد الله حكوا عنك بالكرخ إنَك قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فوقف غضبان وقال: ما أكثر الكذب عليَ، ما قلت في هذا شيئا ولا أقول إنَما بلغني هذا الكلام فقلت هذا كلام سوء، الله المستعان ودخل إلى منزله مغضبا.

و قال أو بكر محمد بن عبد الملك بن زنجويه (ت 258هـ/872م): سمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهميَ ومن قال: لفظه بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع لا يكلَم.

وقال ابن جرير الطبري: سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنَه (الإمام أحمد) كان يقول: ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهميَ ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.

وقال أبو بكر المروزي: بلغ أبا عبد الله عن أبي طالب أنَه كتب إلى أهل "نصيبين" (مدينة بين الشام والموصل) إنَ لفظي بالقرآن غير مخلوق، قال أبو بكر: فجاءنا صالح بن أحمد فقال قوموا إلى أبي، فجئنا فدخلنا على أبي عبد الله فإذا هو غضبان شديد الغضب في وجهه، فقال اذهب فجئني بأبي طالب فجئت به، فقعد بين يديَ أبي عبد الله وهو يرعد فقال: كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عنَي أنَي قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟!! فقال: إنَما حكيت عن نفسي، قال: فلا يحلَ هذا لك ولا عن نفسي، ما سمعت عالما قال هذا، قال أبو عبد الله: القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرَف، فقيل لأبي طالب: أخرج وأخبر أنَ أبا عبد الله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق، فخرج أبو طالب فلقي جماعة من المحدَثين فأخبرهم أنَ أبا عبد الله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق.

قال أبو عبد الله البخاري: وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجها كلَها يخالف بعضها بعضا والصحيح عندي أنَه قال: ما سمعت عالما يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق.

ويرى ابن القيم أنَ اللفظية المثبتة أصابوا في قولهم إنَ الله تعالى تكلَم بهذا القرآن على الحقيقة حروفه ومعانيه تكلَم به بصوته وأسمعه من شاء من ملائكته وليس هذا القرآن العربي مخلوقا من جملة المخلوقات وأخطئوا في قولهم: إنَ هذا الصوت المسموع من القارئ هو الصوت القائم بذات الربَ تعالى وأنَه غير مخلوق، وأنَ تلاوتهم وقراءتهم وألفاظهم القائمة بهم غير مخلوقة فهذا غلَو في الإثبات يجمع بين الحقَ والباطل.

فهذه النصوص وغيرها عن الإمام أحمد رحمه الله كافية في بيان إعتقاده في هذه المسألة، فكما أنَه أنكر بدعة اللفظية النافية أنكر كذلك بدعة اللفظية المثبتة ولم يوافق أيَا من الطائفتين على بدعتهم وأولئك النافية جهّمهم وهؤلاء المثبتة بدّعهم وأمر بهجرهم، لكن كيف شرح أهل السنَة والجماعة هذه المسألة وعلى ما بنوا موقفهم من الطائفتين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في المبحث التالي إن شاء الله تعالى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير