فالأشعريَّةُ لما أثبتُوا الكلامَ النفسيَّ، الذي صرَّح الرازي بأنَّهُ لم يقلُ به أحدٌ غيرهم (8) - احتجُّوا بأنَّ الله تعالى آمرٌ ناهٍ مخبر، فاحتاجُوا عندها أن يُفرِّقُوا بين الأمر والنهي وصفة الإرادة، وبين الخبر وصفة العلم.
قال الرزاي: ": لمَّا كانَ اللهُ تعالى آمراً ناهياً مخبراً وثبتَ أنَّ ذلكَ لا يتحقَّقُ إلا إذا كان الله موصوفاً بطلبٍ وزجرٍ وحُكم، فهذه الأمور الثلاثةُ ظاهرٌ أنها ليست عبارة عن العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والبقاء، بل الذي يشتبهُ الحالُ فيه: إمَّا في الطلب والزجر: فهي الإرادة والكراهية، وأمَّا في الحكم: وهو العلمُ " (9).
وأبو المعالي الجويني وأبو حامد الغزالي ونحوهما - ممن سبقَ الرازي - لم يذكروا فرقَاً بين العلم والخبر وإنما ذكروا فرقاً بين الإرادة والأمر والنهي، " وذاك إن دلَّ فإنما يدلُّ على أن معنى الأمر غيرُ الإرادةِ، لا يدلُّ على أن معنى الخبر غير العلم " (10) كما هو ظاهرٌ.
ولذلك قال الفخرُ الرازيُّ بعد أن شرح الفرقَ بين العلم والخبرِ: " ومن أنصفَ: علم أن هذا التقريرَ والتلخيصَ لم يتيسَّر لأحدٍ ممن تقدَّمَنَا " (11).
والتناقض المقصود هنا - وهو بحثي في هذا المقال -: أن الرازي لما أثبت الكلام النفسي فرق بين العلم والخبر (12) بإثبات إمكانِ الكذب في الخبر النفسي، ولما أثبتَ هو وغيره من الأشعريَّةُ صدقَ الله تعالى أثبتُوه بإثبات استحالةِ الكذبِ في الخبر النفسي!!
أما كلام الرازي في القضية الأولى، فقد قال في الأربعين: "وإنما قلنا: إن هذا الحكمَ الذهنيَّ ليس من جنس العلوم والاعتقادات: وذلك لأنِّي حال ما أكون عالماً بأن العالم ليس بقديم، يمكنني أن أقول في الذهن: العالم قديم (13)، وذلك لأن الذهن كما يمكنه تركيب القضايا الصادقة، فكذلك يمكنه تركيب القضايا الكاذبة.
والقضايا الكاذبة الذهنية يكون الحكمُ الكاذبُ فيها حاصِلاً في الذهن، والعلم بها والاعتقاد غير حاصل.
فها هنا الكلام في القضايا الكاذبة التي يكون كذبها معلوماً، حصل الحكم الذهني، ولم يحصل العلم والاعتقاد، وهذا يدل قطعاً على أن الحكم الذهني مغاير للعلم والاعتقاد " (14).
وقال في نهاية العقول بعد كلامه آنف الذكر: " في الشاهد قد يحكمُ الإنسانُ بما لا يعلمه ولا يعتقدُه ولا يظنُّه، فإذن الحكم الذهنيُّ في الشاهد مغايرٌ لهذه الأمور، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائبِ، لانعقاد الإجماع على أن ماهيَّة الخبر لا تختلف في الشاهد الغائب " (15).
أما كلام الأشعرية في القضيَّةِ المناقضة لها، وهي إثباتُ صدق الله تعالى باستحالة الكذبِ في الكلام النفسي، فقد أورد الغزالي بعدَ أن قرَّرَ دلالةَ المعجزة على صدقِ الرسول (16) اعتراضاً فقال: " هب أنَّ الناس رأوا الله تعالى بأعينهم وسمعُوه بآذانهم وهو يقولُ: هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم، فما الذي يؤمنكم أنه أغوى الرسولَ والمرسلَ إليه وأخبر عن المُشقي بأنه مُسعِدٌ، وعن المُسعِدِ بأنه مُشقِي، فإن ذلك غيرُ محال، إذا لم تقولوا بتقبيح العُقُول؟
بل لو قُدِّرَ عدمُ الرسولِ، ولكن قال الله تعالى شفاهاً وعياناً ومشاهدةً: نجاتُكُم في الصَّوم والصلاة والزكاة وهلاككم في تركها، فبم نعلم صدقَه؟ فلعله يلبِّسُ علينا ليغويَنَا ويُهلِكَنا، فإنَّ الكذب عندكم ليس قبيحاً لعينِه، وإن كان قبيحاً فلا يمتنعُ على الله تعالى ما هو قبيحٌ وظلمٌ وما فيه فيه هلاكُ الخلق أجمعين!! "
قال: " والجوابُ: إن الكذبَ مأمونٌ عليه، فإنَّهُ إنما يكون في الكلام، وكلامُ الله تعالى ليسَ بصوتٍ ولا حرفٍ حتى يتطرَّقَ إليه التلبيسُ، بل هو معنىً قائمٌ بنفسِهِ سبحانه، فكلُّ ما يعلمُه الإنسانُ يقوم بذاته خبرٌ عن معلومه على وفق علمِهِ ولا يتصور الكذبُ فيه، وكذلك في حقِّ الله تعالى.
وعلى الجملة: الكذبُ في كلام النفس محال، وفي ذلك الأمنُ عمَّا قالوه " (17)
فقوله: " فكلُّ ما يعلمُه الإنسانُ يقوم بذاته خبرٌ عن معلومه على وفق علمِهِ ولا يتصور الكذبُ فيه "، بيانٌ لاستحالة أن يقوم في الإنسان خبرٌ بخلافِ علمِهِ، وهذا يناقض الطريقة التي أثبت بها الرازي الكلامَ النفسيَّ، بإمكان أن يخبرَ الإنسانُ بخلاف علمه.
¥