ولو جازَ لزاعمٍ أن يزعم أنه يوصفُ الباري بالقدرة على أن يكذب ولا يوصفُ بالقدرة على أن يجهل ولا يأتي بين ذلك بفُرقانٍ، لجازَ لقالبٍ أن يقلب القصَّة، فيزعُم أن الباري يوصفُ بالقدرة على أن يجهلَ ولا يوصف بالقدرة على أن يكذبَ، فلما لم يجز ذلكَ بطل ما قالُوه " (10).
وقال أبو بَكر الباقلاني: " فإن قال قائلٌ: هل يجوز وقوعُ الكذب منه تعالَى؟.
قُلنا: أما الكذب فلا يجوزُ عليه، لا لأنَّهُ يستقبَحُ منهُ، ولكن لأن الوصفَ له بأنَّهُ صادقٌ من صفاتِ نفسه، ومن كان صدقُه من صفات نفسه استحالَ عليه الكذب، كما أنَّ من كان الوصف له بأنه قادرٌ عالم من صفاتِ النفس استحال أن يعجَز ويجهَل، وليس وجهُ استحالة هذه الأمور عليه لأجلِ القُبح، لكن استحالتُها عليه بأدلَّة العُقُول " (11).
فقد صرحا بأن عدم جواز وقوعه ليس لقبحه!
- والمسلك الثاني هو دليلُهم الذي تقدَّم بحثه في الحلقةِ السابقةِ، وبيانُ أنه يناقض أصل القول بالكلام النفسي، على أنَّ العضد نفسه تعقبه بقوله: " وهذا إنما يدلُّ على كون الكلام النفسي صدقَاً، وأما هذه العبارات فلا " (12).
- والمسلكُ الثالث من مسالك العضد - وهو الذي اختارَهُ -: " خبرُ النبي عليه السلام، وذلك يُعلَم بالضرورةِ من الدين.
فإن قيلَ: إنما يدلُّ تصديقه على الصدق إذا امتنعَ عليه الكذب، فيلزم الدَّور؟. قلنا: التصديقُ بالمعجزة " (13).
ومعنى هذا: أن الله تعالى يصدِّقُ رسولَه بإظهار أمر خارقٍ للعادةِ على يده، فيحصلُ للمُرسَل إليهم علمٌ ضروريٌّ بصدق هذا الرسول.
والمثال الذي ضربُوه لتوضيح ذلك: " لو تحدَّى إنسانٌ بين يدي ملك على جندِه أنَّهُ رسُول الملك إليهِم، وأنَّ الملك أوجب طاعتَهُ عليهم في قسمةِ الأرزاق والاقطاعات، فطالبُوه بالبُرهان والملكُ ساكتٌ، فقالَ: أيُّها الملك! إن كُنتُ صادقاً في ما ادعيتُهُ فصدِّقني بأن تقُوم على سريرِك ثلاث مرَّاتٍ على التوالي وتقعُدَ على خلافِ عادتك، فقام الملكُ عقيب التماسه على التوالي ثلاث مرَّاتٍ ثم قعَد؛ لو فعَل ذلك حصلَ للحاضرين علمٌ ضروريٌّ بأنه رسولُ الملك قبل أن يخطُر ببالهم أن هذا الملك من عادته الإغواءُ أم يستحيلُ في حقه ذلك ".
وهذا المسلك يناقض أصلهم في أن التعليل.
قال شيخُ الإسلام: " لكن يُقَالُ لهم: الملكُ يفعلُ فعلاً لمقصودٍ؛ فأمكنَ أن يُقَال: أنه قامَ ليصدِّقَ رسُولَه، وأنتم عندَكُم أن الله لا يفعلُ شيئاً لشَيء، فلم يبقَ المثل مطابقاً " (14).
وقال الطوفي: " لو لم تكُن أفعالُه معلَّلةً لزم منهُ إفحامُ الرُّسُل بأن يُقَال: معجِزُك هذا الذي أثبتَّ به لم يخلُقه الله لأجل تصديقِك، بل خلَقَه لا لعلةٍ ولا لغرضٍ، وإنما ظهر على وفق دعواكَ اتِّفَاقاً، فتعليلُ الأفعال لازمٌ لصحة الاحتجاجِ بالمُعجِز، وإذا لزم خلقُ المعجز لأجل التصديق جازَ تعليلُ غيرِه من الأفعال إذ لا فَرق " (15).
وقال المعلميُّ: " لو فرضنا أنَّ ذلك الجمَّ الغفيرَ كانُوا يعتقدون أن الملِكَ لا يُبَالي أصدَقَ أم كذَب، و لا أَفَعَل ما تقتضيه الحكمةُ أم ما تأبَاه، لم يحصُل لهم بقيامه و قعُوده أدنى ظنٍّ، فضلاً عن الظنِّ الغالب، فضلاً عن العلمِ، فأما إذا كانوا يعتقدُون أنه لا يفعل شيئاً لأجلِ شيءٍ فالأمرُ أشدُّ!.
فثبتَ أن الذين يعلمُون أن المعجزة من فعلِ الله عز وجل إنما يصدِّقُون لاعتقادِهم أن الله تعالى مُنزَّهٌ عن أن يقع منه الكذِبُ أو فعلٌ مناقضٌ للحكمة، وهذا الاعتقادُ هو مُقتضى الفِطَر الزكيَّة والعقُول النقيَّة وهُو اعتقادُ كل من يُؤمِنُ حقَّ الإيمان بوجُود الله تعالى و كمَال علمه وقُدرَته، حتى من الأشاعِرَة أنفُسِهم، يعتقدُون ذلك بمقتضى فِطَرهم، و إن أنكروا بألسِنَتهم " (16).
وهذا المسلك إن دلَّ فإنما يدلُّ على صدقِ القرآن العربي، لا صدقِ كُلِّ كلامٍ من كلامِهِ تعالى، أو: صدقِ كُلِّ دليل يدلُّ على الكلامِ النفسيِّ – حسب اصطلاح القوم -. (17)
¥