وثالثُها: الإضافاتُ المحضة، والنسب المحضة، مثلُ كون الشيء قبل غيره وبعد غيره، ومثلُ كون الشيء يميناً لغيره أو يساراً له؛ فإنك إذا جلستَ على يمين إنسانٍ ثم قام ذلك الإنسانُ وجلس في الجانب الآخر منك؛ فقد كُنتَ يمينا له، ثمَّ صرت الآن يساراً، له فهُنَا لم يقع التغيُّر في ذاتك، ولا في صفة حقيقيةَّ من صفاتكِ؛ بل في محض الإضافات.
إذا عرفتَ هذا فنقول: أما وقوع التغير في الإضافات فلا خلاص عنه، وأما وقوع التغير في الصفات الحقيقية: فالكرامية يثبتونه وسائر الطوائف ينكرونه (2).
فبهذا يظهر الفرق في هذا الباب بين مذهب الكرامية ومذهب غيرهم " (3).
وقد اعتَرض الشيخ الأصوليُّ المتكلِّمُ صفيُّ الدين الأرمويُّ الهنديُّ (4) رحمه الله تعالى على تقرير الرازي هذا فقال: " المسألة الثامنة عشرة: في امتناع كونه تعالى محلاً للحوادث.
والمرادُ من الحادثِ الموجودُ الذي وُجدَ بعد العدم، ذاتاً كان أو صفة، أما ما لا يوصفُ بالوجود كالأعدامِ المتجدِّدَة والأحوالِ عند من يقول بها والإضافات عند من لا يقول إنها وجوديةً، لا يصدُقُ عليها اسمُ الحادث، وإن صدق عليها اسمُ المتجدِّد، ِ فلا يلزمُ من تجدُّدِ الإضافاتِ والأحوال في ذات الباري تعالى أن يكونَ محلاً للحوادث.
وما قال الإمامُ في هذا المقام؛ أنَّ أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان، وبيَّنَهُ بصُورٍ فليس كذلك، لأنَّ أكثر ما ذكر من تلكَ الأمور فإنَّ ما هي أمورٌ متجدِّدَة لا مستحدَثة، والمتجدِّدُ أعمُّ من الحادث، ولا يلزمُ من وجود العامِّ وجودُ الخاصِّ، بل الخلافُ فيه مع المجوسِ والكرَّامية.
ثم إنَّ الصفة إن كانت عاريةً عن الإضافة كالوجودِ والحياة، أو حقيقيةً مستلزمة للإضافة فالتغيير في هاتين لا يجوزُ عند الجمهور، وإن كانت إضافيَّةً محضةً ككون الشيء قبل الشيء أو بعده، فالتغيير في هذه واقعٌ لا محالة، ولا إشكال فيه، لأنها عدميَّةٌ عندَنَا " (5).
وقد نقلَ ابنُ تيميةَ كلامَهُ هذا بحروفه في مناقشتِهِ لأدلة الأشعريَّةِ على امتناع حلولِ الحوادثِ، وتعقَّبهُ من ثلاثةِ وجوه، سأنقلُهَا وأُتبعُها بوجهٍ رابعٍ ذكرَهُ الرازي في نهاية العقول، ووجهٍ خامسٍ ظهرَ لي.
قال رحمه الله: " ولقائلٍ أن يقولَ: هذا ضعيفٌ من وجوه:
أحدها: أن الدليلَ الذي استدلُّوا به على نفي الحوادث ينفي المتجدِّدَاتِ ايضاً، كقولهم: إما ان يكون كمالاً او نقصاً.
وقولهم: لو حصلَ ذلك للزم التغيُّر.
وقولهم: إمَّا أن تكونَ ذاتُه كافيةً فيه أو لا تكون.
وقولِهم: كونُهُ قابلاً له في الأزل يستلزمُ إمكانَ ثبوته في الأزل.
فإنَّهُ لا يُمكِنُ أن يحصُلَ في الأزل لا مُتجدِّدٌ ولا حادثٌ، ولا يوصفُ الله بصفةِ نقصٍ سواء كان متجدِّدَاً أو حادثاً، وكذلك التغيُّر لا فرق بين أن يكون بحادثٍ أو مُتجدِّدٍ.
فإن قالوا: تجدُّد المتجدِّداتِ ليس تغيُّراً!
قال أولئك: وحدوثُ الحركات الحادثةِ ليس تغيُّراً!
فإن قالوا: بل هذا يُسمَّى تغيُّراً منعوهم الفرقَ، وإن سلَّمُوه كان النِّزَاعُ لفظيَّاً، وإذا كان استدلالُهم ينفي القسمينِ لزم إمَّا فسادُه وإما النقض.
الوجه الثاني: أن يُقَال: تسميةُ هذا متجدِّدَاً وهذا حادثاً فرقٌ لفظيٌّ لا معنوي، ولا ريبَ أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والحديث لا يُطلقُون عليه سُبحانه وتعالى أنَّهُ محلُّ الحوادِث، ولا محلُّ الأعراضِ ونحو ذلك من الألفاظ المُبتَدَعة، التي يُفهُمُ منها معنىً باطلٌ، فإنَّ النَّاسَ يفهمونَ من هذا أن يحدُثَ في ذاته ما يسمُّونَهُ هُم حادثاً، كالعيوبِ والآفات، والله مُنزَّهٌ عن ذلك سبحانَهُ وتعالى.
وإذا قيل: فلان وليٌّ على الأحداث، أو تنازعَ أهلُ القبلة في أهل الأحداثِ، فالمرادُ بذلك الأفعالُ المُحرَّمةُ كالزنا والسرقة وشُرب الخمر وقطع الطريق، والله أجلُّ وأعظمُ من أن يخطُرَ بقلوبِ المؤمنين قيامُ القبائح به.
والمقصودُ أن تفرقة المُفرِّقِ بين المُتجدِّدِ والحادثِ أمرٌ لفظيٌّ لا معنى عقليٌّ، ولو عكسَهُ عاكسٌ فسمى هذا مُتجدِّدَاً وهذا حادثاً لكان كلامُه من جنس كلامِه.
¥