فلا تكن ممن غلُظَ حجابُه وكثف طبعُه فيقولُ: لا نقفُ معها وقوفَ من يعتقدُ أنها مُستقلَّةً بالإحداث والتأثير، وأنها أربابٌ من دون الله، فإن وجدت أحداً يزعُم ذلك، ويظُنُّ أنهَّا أربابٌ وآلهة مع الله مستقلَّةٌ بالإيجادِ، أو أنَّهَا عونُ لله يحتاجُ في فعله إليها، أو إنها شركاءُ له، فشأنُكَ به فمزِّق أديمَهُ، وتقرَّب إلى الله بعداوته ما استطعت، وإلا فما هذا النَّفيُ لما أثبتَهُ الله، والإلغاءُ لما اعتبره، والإهدار لما حققه، والحطُّ والوضعُ لما نصبه، والمحوُ لما كتبه، والعزلُ لما ولاه؟!.
فإن زعمت أنَّك تعزلها عن رُتبَةِ الإلهيَّة؛ فسبحان الله! من ولاها هذه الرُّتبةَ حتى تجعل سعيك في عزلِهَا عنها؟! " (17).
والحق أن ما قالوه هنا يلزم منه تبديعُ بعضِ أئمتهم، وقد أوردَ الدردير هذا الإيرادَ في شرحه فقال: " فإن قلتَ: إنَّ بعضَ أهل السنة قال بالتأثير بواسطة القُوَّة، ورجَّحه الإمامُ الغزالي والإمامُ السبكي كما نقله السيوطي، فكيف يكونُ القائل به بدعيَّاً وفي كفرِه قولان؟
قلتُ: معنى القول بالتأثيرِ بالقوة عند بعضِ أئمَّتِنا: أنَّ الله تعالى هو المُؤثِّرُ والفاعل بسببِ تلك القوة التي خلقَها الله تعالى في تلك الأشياء، فالتأثيرُ عنده لله وحدَه، وإن كان بواسطةِ تلك القوة، وأما القدريَّةُ فينسِبُون التأثيرَ لتلك الأشياءِ بواسطة القُوَّةِ، ففرقٌ بين الاعتقادين، ومع ذلك فالراجح الأول، وهو أن التأثير لهُ وحدَه عندها لا بها " (18).
قلت: المعنى الذي ذكره عن أئمَّتِهم هؤلاء هو المعنى الذي حكم السنوسي بتبديعِ قائله في البدع التي ذكر أنها نشأت عن القول بالربطِ العادي، ولم يقل إن هؤلاء المبتدعةَ في زعمه ينسبون التأثير لتلكَ الأشياء بواسطَةِ القوة، بل صرَّح بأن من قال أن الله تعالى خلق فيها قوة مؤثرة، ولو نزعها منها لم تُؤثِّر، مبتدعٌ ضالٌّ فاسقٌ!!
قال: " ونشأ عنه – أي عن القول بالرَّبطِ العادي – بدعةٌ مختلفٌ في كُفر صاحبِها، كبدعَةِ من اعتقد حُدوثَ الأسباب العادية بجعلِ الله تعالى فيها قوة لذلك ولو شاء لم تُؤثِّر " (19)
وقال: " ومن الناس من يعتقد حدوثَ الأسبابِ وتأثيرَها في ما قارنها، لكن ليس من طبائِعِها، وإنما هو بخلقِ الله تعالى فيها قُوَّةً مؤثرة، ولو نزعها منها لم تُؤثِّر، فهؤلاء مبتدعةٌ ضُلالٌ فُسَّاق، وفي كفرهم من الخلاف ما سبق!! " (20).
فهذا الحكمُ الذي ذكرَهُ ينطبقُ على الأئمَّةِ المذكورين، فهو مخالفٌ لما قاله الدردير، وليس سببُ هذا الخبط إلا أنهم يخترعون أصولاً من عندهم ثم يحكمون على من خالفها بأحكامٍ من عندهم، فليس غريباً أن يحكمَ كُلُّ واحدٍ منهما بحكم، لأنه ليس ثمَّة فيصلٌ يفصلُ بينهما.
أما جعله: " التمسكَ في عقائد الإيمان بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير تفصيل بين ما يستحيل وما لا يستحيل "، من أصولِ الكُفرِ والبدَعِ، فلم يناقِض به قول الأشعريَّةِ: إن التكفيرَ حكمٌ شرعيٌّ فحسب، بل أتى بشناعة عظيمة لا أجد لردِّها أحسنَ من كلامِ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، حين تعقب الصاوي الذي قلَّدَ السنوسي وذكرَ هذا الأصل في أصول الكفر في حاشيته على تفسير الجلالين، قال الشنقيطي: " وَقَوْلُ الصَّاوِيِّ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ.
وَمَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟ سَمُّوهُمْ لَنَا، وَبَيِّنُوا لَنَا مَنْ هُمْ؟
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ، وَلَا مُتَعَلِّمٌ ; لِأَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ بِهِ حُدُودُهُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَوَامِرُهُ، وَيُنْصَفَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ.
¥