وَ [نَبَغَتْ] (23) نَاشِئَةٌ ضَرُّوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ وَتَدْوِينِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَتَبْوِيبِ أَبْوَابٍ وَرَسْمِ تَرَاجِمَ عَلَى تَرْتِيبِ فِطْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَرَسَمُوا بَابًا فِي ضَحِكِ الْبَارِي، وَبَابًا فِي نُزُولِهِ وَانْتِقَالِهِ وَعُرُوجِهِ وَدُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَضْرَاسِ، وَبَابًا فِي خَلْقِ اللَّهِ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْقَدَمِ وَالشَّعْرِ الْقَطَطِ، وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الزَّائِغِينَ، وَلَيْسَ يَعْتَمِدُ جَمْعَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَتَمْهِيدَ هَذِهِ الْأَسبابِ إلَّا مُشَبِّهٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، أَوْ مُتَلَاعِبٌ زِنْدِيقٌ " (24).
وكلامُه هذا يدلُّ على جهلٍ مُركَّبٍ بالسنن والآثارِ، وجهلٍ مُركَّب بأئمة السنن والآثار، نتج عنه هذا التحاملُ، وقد تعقَّب ابنُ تيمية كلامه هذا من خمسة عشر وجهاً فراجعه (25).
ومن أئمَّةِ الأشعريَّةِ من جهلُهُ بعلمِ الحديث جهلٌ بسيطٌ، فهو يجهلُ ويعلمُ أنَّهُ يجهلُ، كالغزاليِّ الذي صرح بأن بضاعته في الحديث مزجاة (26).
أما التقليدُ الرديء فكثيرٌ منهم واقعٌ فيه، بل لو قيل إن المتأخرين والمعاصرينَ من الأشعرية أساطينُ ذلك وأئمَّتُه لما كان بعيداً، حتى إنهم يقلِّدُون في ما لا يصح التقليدُ فيه، ويعتمدُون كلام أئمتهم في تصوير مذاهب خصومهم كأنه كلامٌ منزلٌ من السماء، وقد صدق الشيخ المقبلي حين قال فيهم: " وهُم في كل المذاهب يجعلُون نقلَ أسلافهم حُجَّةً على خَصمِهِم في أنَّهُ يقولُ القولَ مع أنه يتبرَّأ مِنهُ، وهو مثلُ ما يُقالُ في الحِمصِيَّاتِ: شَهِدَ عليك من هُوَ أعدَلُ منكَ! " (27)
وقال فيهم العلامة محمد الطاهر بن عاشور – مع ترجيحه لطريقتهم -: " وألزموا الناس بالتقليدِ في الدليل كما يُقلِّدون في المدلول " (28)، وهذا كلام خبير بحالهم.
أما الجهلُ بالقواعدِ العقليَّةِ، فهم وإن كانوا يدعون أنَّهم أربابُ المعقول وأئمَّةُ النظر وفرسانُ الكلام، فهم كثيرُو التناقض، وما أرقمه هنا ليس إلا أمثلة على ذلكَ.
قال ابن عاشور في أسباب تأخر علم الكلام: " ثالثها: قولُ ما لا يُعقَل واعتقادُه، وعندَهم أن ذلك من محاسنِ الإيمان، ورُبَّما جعلُوه من معنى قولِه تعالى ?الذين يؤمنون بالغيب? [البقرة:3] فمن ذلك قولُهم: "إن السمع يتعلق بالمبصرات، فهو بظاهره فاسد إلا أن يصرّحوا بأنه كناية عن العلم، وأنَّ الكلام بلا حرفٍ مع أنَّهُ كلام، وأن رُؤيتنا الله في الآخرة بالعين لكن بلا جهةٍ ولا كيفٍ، وكذلك تقريرُهم في الكسب " (29).
أما الجهلُ باللِّسانِ العربيِّ فهو موجودٌ فيهم أيضاً، ومن ذلك مفهومُ التوحيدِ عندَهُم، فإنهم عرَّفُوه بما لا يدل عليه لا لغةً ولا شرعاً.
السادسةُ: أنَّ السنوسيَّ ذكر في الشرح في الكفريات التي نشأت عن التحسينِ العقليِّ كُفرَ البراهمة (30)، وذكر في الكفريات الناشئةِ عن الأخذ بالظواهر كفرَ الثنوية (31).
أما البراهمةُ، فهم فرقةٌ مندثرةٌ لا وجودَ لها، فمن العجب أن هؤلاء إذا تطرَّقُوا إلى مسألة التحسين والتقبيح اشتغلُوا بمقارعتهم، مع أن الشبهةَ التي ينقلونها عنهم في هذه المسألةِ شبهةٌ سخيفة، لا تحتاج إلى تضخيم كتب الكلام بمناقشتها، لكنهم يموهون بذلك حتى يوهموا الدارسين أن التحسين والتقبيح يفضي إلى قول البراهمة.
مع أن من الماتريدية (32) – المثبتين للتحسين والتقبيح – من ناقش قول البراهمة دون حاجة للالتزام بقولِ الأشاعرة في النفي.
أما الثنوية، فقد ذكر أنهم استدلُّوا بقوله تعالى: ? الله نور السماوات والأرض ?، على قولِهم بألوهيَّةِ النور والظلمة، ثم اشتغل بتأويل الآية حتى يرد عليهم!
وهذا من الأمور المضحكةِ المبكيةِ، فهذه الطائفة طائفةٌ مجوسيَّةٌ ملحدةٌ لا تؤمن بالرُّسُل، فكيف يستدلُّون بهذه الآية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ويكون كفرُهم ناتجاً عن أخذهم بظاهرها؟!!
¥