أطيب عند الله من ريح المسك: لا يتوهم أن الله تعالى يستطيب الروائح ويستلذها فإن ذلك محال عليه وإنما معنى هذه الأطيبة راجعة إلى أنه تعالى يثيب على خلوف فم الصائم ثوابا أكثر مما يثيب على استعمال المسك ... ويحتمل أن يكون ذلك في حق الملائكة فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون أو نستطيب ريح المسك وقيل يجازيه الله في الآخرة بأن يجعل نكهته أطيب من ريح المسك كما في دم الشهيد وقيل مجاز واستعارة لتقريبه من الله تعالى.
وقال السيوطي أيضا في تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/ 227):
أطيب عند الله من ريح المسك اختلف في معناه لأنه تعالى منزه عن استطابة الروائح فقال المازري هو مجاز لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريب الصوم من الله ... الخ.
وقال في شرحه على سنن النسائي (4/ 161):
أطيب عند الله من ريح المسك اختلف في ذلك مع أن الله منزه عن استطابة الروائح إذ ذاك من صفات الحوادث ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه ... الخ
وفي فيض القدير للمناوي (4/ 618):
ولا يتوهم أن الله يستطيب الروائح ويستلذ فإنه محال عليه تعالى وإنما معنى هذه الأطيبية راجع إلى أنه تعالى يثيب على خلوف فمه ثوابا أكثر مما يثيب على استعمال المسك .. ويحتمل أن يكون في حق الملائكة فيستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك وقيل يجازيه الله في الآخرة بأن يجعل نكهته أطيب من المسك كما في دم الشهيد أو هو مجاز واستعارة لتقريبه من الله. الخ
وفي عمدة القاري شرح صحيح البخاري (16/ 382): والله غني عن وصول الرائحة الطيبة إليه ..
وفيه أيضا: قوله أطيب عند الله لا يتصور الطيب على الله إلا بطريق الفرض أي لو تصور الطيب عند الله لكان الخلوف أطيب. الخ
وقال ابن عبد البر في التمهيد (13/ 128):
ومعنى قوله "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" يريد أزكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك.
وقال في الاستذكار (3/ 375):
وقوله أطيب عند الله من ريح المسك يريد أزكى عند الله وأقرب إليه من ريح المسك عندكم يحضهم عليه ويرغبهم فيه وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم. الخ
وعليه كثير من الشراح كالباجي في المنتقى وصاحب شرح مشكاة المفاتيح وغيرهما ..
رأي من ترك المعنى على حقيقته بلا تأويل ..
وممن رد هذا التأويل وبين خطأه وجعله على الحقيقة بلا ميل، الإمام ابن القيم وهو العدو اللدود لأهل التأويل والتعطيل رحمة الله تبارك وتعالى عليه.
فقال في الوابل الصيب (1/ 43) بعد ذكر مناظرة بين الامام أبي محمد العز بن عبد السلام والامام ابن الصلاح في مسألة هذا الطيب في الدنيا أم الآخرة:
ثم ذكر [العز بن عبد السلام] كلام الشراح في معنى طيبه وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم والرضى بفعله على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة حتى كأنه قد بورك فيه فهو موكل به ..
وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله وإخراج اللفظ عن حقيقته؟
وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنىً ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له ..
ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلوما بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع صلى الله عليه وسلم وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به وإلا كانت شهادة باطلة.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك فمثل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخلوف عند الله تعالى بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه والعمل الصالح فيرفعه وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا.
¥