ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال: إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا فإن قال رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا استطابة ليس كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب ..
ومن العجب رده [أي ابن الصلاح] على أبي محمد [العز بن عبد السلام] بما لا ينكره أبو محمد وغيره فإن الذي فسر به الاستطابة المذكورة في الدنيا بثناء الله تعالى على الصائمين ورضائه بفعلهم أمر لا ينكره مسلم فإن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وفيما بلغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ورضي بفعله فإن كانت هذه هي الاستطابة فيرى الشيخ أبو محمد [لا] ينكرها ...
وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى وبالعكس فإن الناس يكرهونه لمنافرته طباعهم والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته أمره ورضاه ومحبته فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد وصار علانية وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر ..
وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة وقد يقوى العمل ويتزايد حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة ... فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ
باختصار لموضوع الشاهد وتصرف بحذف موضوع الخلاف بين الشيخين ابن الصلاح والعز بن عبد السلام.
وعلى ذلك الكلام القيم من ابن القيم تبع كثير من جمهور علماء السلفية في عصرنا رأي ابن القيم لأنه يتماشى مع أصول أهل السنة في دفع التأويل والتعطيل والقول بحقيقة ظاهر اللفظ بلا تشبيه أو تمثيل ..
فقال الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل في كتابه التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري (1/ 17) تعليقا على كلام الامام ابن حجر عاليه:
هذا وما قبله تأويلات متكلفة لا مبرر لها، وخروج باللفظ عن حقيقته. والاستطابة لرائحة خلوف فم الصائم من جنس سائر الصفات العلى يجب الإيمان بها مع عدم مماثلة صفات المخلوقين، ومع عدم التكلف بتأويلها بآراء العقول ومستبعدات النقول، والذي يفضي بها إلى تعطيلها عن الله.
فالواجب الإيمان بها كسائر الصفات على الوجه اللائق بالله من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} وقال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. والله أعلم.
وفي تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري (1/ 15):
قال الشيخ البراك: قوله: " ... مع أنه سبحانه تعالى منزه عن استطابة الروائح ... إلخ": هذا الجزم من الحافظ رحمه الله بنفي صفة الشم عن الله تعالى الذي هو إدراك المشمومات لم يذكر عليه دليلاً إلا قوله: " إذ ذاك من صفة الحيوان "، وهذه الشبهة هي بعينها شبهة كل من نفى صفة من صفات الله سبحانه من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وهي شبهة باطلة؛ فما ثبت لله تعالى من الصفات يثبت له على ما يليق به ويختص به كما يقال ذلك في سمعه وبصره وعلمه وسائر صفاته. وصفة السمع ليس في العقل ما يقتضي نفيها فإذا قام الدليل السمعي على إثباتها وجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، وهذا الحديث - وهو قوله: " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " - ليس نصاً في إثبات الشم، بل هو محتمل لذلك، فلا يجوز نفيه من غير حجة، وحينئذ فقد يقال: إن صفة الشم لله تعالى مما يجب التوقف فيه لعدم الدليل البين على النفي أو الإثبات فليتدبر، والله أعلم بمراده ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم نقل كلام ابن القيم المذكور أعلاه .. ثم قال معقيا:
ويلاحظ أن ابن القيم اقتصر على لفظ الاستطابة دون لفظ الشم وقوفاً مع لفظ الحديث.
قلت: وهذا هو الصواب في تسمية هذه الصفة وقوفا مع ظاهر اللفظ ..
وفي التعليق على فتح الباري قال الدويش (1/ 6):
¥