وقيلَ لفظُ الناسِ مَعْطُوفٌ على = كَلِمَةِ الوَسْواسِ فِيمَا نُقِلا
فالعَوْذُ إذْ ذاكَ من الوَسْواسِ = ثُمَّ يَعُوذُ من شِرَارِ الناسِ
عاذَ من الجِنَّةِ والإنسِ مَعَا = أعاذَنَا اللهُ ومَن قَدْ سَمِعَا). [التيسير العجيب: 235]
قالَ نِظَامُ الدِّينِ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ (ت: 728هـ): (وقالَ قَوْمٌ: "الناسُ" الرابِعُ يُرادُ به الجِنُّ والإنسُ جَميعاً، وهو اسْمٌ للقَدْرِ المُشْتَرَكِ بينَ النوعيْنِ.
كما رُوِيَ أنه جاءَ نَفَرٌ مِن الجنِّ فقيلَ لهم: مَنْ أَنْتُمْ؟ فقالوا: نَاسٌ مِن الجِنِّ.
وقدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ رِجَالاً في قَوْلِه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}.
و"الناسُ" الخامسُ هوا لمَخْصُوصُ بالبَشَرِ.
ومعنى الآيةِ على هذا التقديرِ: أنَّ هذا الوَسْوَاسَ الخَنَّاسَ لا يَقْتَصِرُ على إضلالِ البَشَرِ، ولكنَّه يُوَسْوِسُ للنوعيْنِ، فيكونُ
قولُه: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بياناً للناسِ). [غرائب القرآن: 30/ 225]
قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزَّرْعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (فصلٌ: وقولُه تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرون في هذا الجارِّ والمجرورِ بم يَتَعَلَّقُ. فقالَ الفَرَّاءُ وجماعةٌ: هو بيانٌ للناسِ الْمُوَسْوَسِ في صدورِهم. والمعنى: يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ الذين هم من الْجِنِّ والإنْسِ، أي: الْمُوَسْوَسُ في صدورِهم قِسمان؛ إنسٌ وجِنٌّ، فالوَسواسُ يُوَسْوِسُ للجِنِّيِّ كما يُوَسْوِسُ للإنسيِّ.
وعلى هذا القولِ فيكونُ من الْجِنَّةِ والناسِ نُصِبَ على الحالِ؛ لأنه مجرورٌ بعدَ مَعرفةٍ على قولِ البَصْرِيِّينَ، وعلى قولِ الكُوفِيِّينَ: نُصِبَ بالخروجِ من المعرفةِ. هذه عِبارتُهم، ومعناها أنه لَمَّا لم يَصْلُحْ أن يكونَ نَعْتًا للمَعرفةِ انْقَطَعَ عنها فكانَ مَوْضِعُه نَصْبًا، والبَصْرِيُّون يُقَدِّرُونه حالاً، أي: كائنَيْنِ من الْجِنَّةِ والناسِ، وهذا القولُ ضَعيفٌ جِدًّا لوُجوهٍ:
أحدُها: أنه لم يَقُمْ دليلٌ على أنَّ الْجِنِّيَّ يُوَسْوِسُ في صُدورِ الْجِنِّ، ويُدخِلُ فيه ما يُدْخِلُ في الإنسيِّ، ويَجرِي منه مَجراه من الإنسيِّ، فأيُّ دليلٍ يَدُلُّ على هذا حتى يَصِحَّ حَمْلُ الآيةِ عليه.
الثاني: أنه فاسدٌ من جِهةِ اللفظِ أيضًا؛ فإنه قالَ: الذي يُوَسْوِسُ في صُدورِ الناسِ، فكيف يُبَيِّنُ الناسَ بالناسِ؛ فإنَّ مَعنى الكلامِ على قولِه يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ الذين هم أو كائنِينَ من الجِنَّةِ والناسِ، أَفيَجوزُ أن يُقالَ: في صدورِ الناسِ الذين هم من الناسِ وغيرِهم، هذا ما لا يَجوزُ، ولا هو استعمالٌ فصيحٌ.
الثالثُ: أن يكونَ قد قَسَّمَ الناسَ إلى قِسمينِ: جِنَّةٍ وناسٍ، وهذا غيرُ صحيحٍ، فإنَّ الشيءَ لا يَكونُ قَسيمَ نفسِه.
الرابعُ: أنَّ الْجِنَّةَ لا يُطْلَقُ عليهم اسمُ الناسِ بوجهٍ لا أَصْلاً واشْتِقاقًا ولا استعمالاً، ولفْظُهما يَأْبى ذلك؛ فإنَّ الجِنَّ إنما سُمُّوا جِنًّا من الاجتنانِ، وهو الاستتارُ، فهم مُسْتَتِرون عن أَعْيُنِ البَشَرِ فُسُمُّوا جِنًّا لذلك، من قولِهم: جَنَّه الليلُ وأَجَنَّه إذا سَتَرَه، وأَجَنَّ الْمَيِّتَ إذا سَتَرَه في الأرْضِ، قالَ:
ولا تَبْكِ مَيْتًا بعدَ مَيْتٍ أَجَنَّهُ
عليٌّ وعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ
يُريدُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنه الْجَنينُ لاستتارِه في بَطْنِ أُمِّه، قالَ تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32] ومنه الْمِجَنُّ لاستتارِ المحارِبِ به من سلاحِ خَصْمِه، ومنه الْجَنَّةُ لاستتارِ داخلِها بالأشجارِ، ومنه الْجُنَّةُ بالضَّمِّ لِمَا يَقِي الإنسانَ من السهامِ والسلاحِ، ومنه الْمَجنونُ لاستتارِ عَقْلِه.
وأمَّا الناسُ فبَيْنَه وبينَ الإنسِ مناسَبَةٌ في اللفظِ والمعنى، وبينَهما اشتقاقٌ أوْسَطُ، وهو عَقْدُ تَقالَيبِ الكلمةِ إلى معنًى واحدٍ.
والإنْسُ والإنسانُ مُشْتَقٌّ من الإيناسِ، وهو الرؤيةُ والإحساسُ.
¥