قالَ بعضُهم: المرادُ المعنى الثاني، كأنه قالَ: من شرِّ الوَسواسِ الجنيِّ الذي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناسِ جِنِّهِم وإِنْسِهِم، فسَمَّى الجِنَّ نَاسًا كما سَمَّاهُم نَفَرًا ورِجالاً في قولِهِ تعالى: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وقولِه تعالى: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} فهو استعاذةٌ باللهِ مِنْ شرِّ الوسواسِ الذي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الجنِّ كما يُوَسْوِسُ في صدورِ الإنسِ، وهو اختيارُ الفَرَّاءِ، والمرادُ بالجِنَّةِ هنا الشَّياطِينُ مِنَ الجنِّ على الوجهِ الأوَّلِ، ومطلقُ الجِنِّ على الوجهِ الثاني؛ لأنَّ الشيطانَ مِنهم هو الذي يُوَسْوِسُ لا غيرُه، ومُطْلَقُهُم يُوَسْوَسُ إليه، واختارَ الزَّمَخْشَرِيُّ الوجهَ الأوَّلَ، وقالَ: ما أُحِقُّ أنَّ اسمَ الناسِ يَنْطَلِقُ على الجِنِّ؛ لأنَّ الجِنَّ سُمُّوا جِنًّا لاجْتِنَانِهِم؛ أي: لاسْتِتَارِهِم، والناسَ سُمُّوا ناسًا لِظُهُورِهِم مِنَ الإيناسِ وهو الإبصارُ، كما سُمُّوا بَشَرًا بظُهُورِهِم مِنَ البَشَرَةِ، ولو صَحَّ هذا الإطلاقُ لم يَكُنْ هذا المُجْمَلُ مناسبًا لفصاحةِ القرآنِ، قالَ: وأجودُ مِنه أنْ يُرادَ بالناسِ الأوَّلِ الناسي كقولِه تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} وكما قُرِئَ: (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي) ثم بَيَّنَ بالجِنَّةِ والناسِ؛ لأنَّ الثَّقَلَيْنِ هما الجِنسانِ المَوْصُوفانِ بنِسيانِ حُقُوقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ). [غرائب التنزيل: 602]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ القُرْطُبِيُّ (ت: 671هـ): (قولُه تعالَى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} أَخَبَرَ أنَّ المُوَسْوِسَ قد يكونُ مِنَ الناسِ.
قالَ الحَسَنُ: هما شَيْطَانَانِ؛ أمَّا شيطانُ الجِنِّ فيُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ، وأمَّا شيطانُ الإنسِ فيأتِي عَلاَنِيَةً.
وقالَ قَتادَةُ: إنَّ مِن الجِنِّ شَيَاطِينَ، وإنَّ مِن الإنسِ شياطينَ؛ فتعوَّذْ باللهِ مِن شياطينِ الإنسِ والجنِّ.
ورُوِيَ عن أبي ذَرٍّ أنَّه قالَ لرجلٍ: هل تَعَوَّذْتَ باللهِ مِن شياطينِ الإنسِ؟ فقالَ: أَوَمِنَ الإنسِ شَيَاطِينُ؟ قالَ: نَعَمْ؛ لقولِه تعالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعامُ: 112] ... الآيةَ.
وذَهَبَ قَوْمٌ إِلى أنَّ {النَّاسِ} هنا يُرَادُ بِهِ الجِنُّ. سُمُّوا ناسًا كمَا سُمُّوا رِجالاً في قولِهِ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجنُّ: 6]- وَقَوْمًا وَنَفَرًا.
فعلى هذا يكونُ: {وَالنَّاسِ} عَطْفًا على {الْجِنَّةِ}، ويكونُ التَّكْرِيرُ لاخْتِلاَفِ اللَّفْظَيْنِ.
وذُكِرَ عن بَعْضِ العرَبِ أنه قالَ وهو يُحَدِّثُ: جاءَ قَوْمٌ مِن الجنِّ فَوَقَفُوا. فقِيلَ: مَن أنْتُم؟ فقالُوا: نَاسٌ مِنَ الجِنِّ. وهو معنى قولِ الفَرَّاءِ.
وقِيلَ: {الوَسْوَاسِ} هو الشيطانُ. وقولُه: {مِنَ الْجِنَّةِ} بيانٌ أنَّه مِنَ الجِنِّ، {وَالنَّاسِ} معطوفٌ على {الْوَسْوَاسِ}. والمعنَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ، الذي هو مِنَ الجِنَّةِ، ومِنْ شَرِّ النَّاسِ.
فعلى هذا أُمِرَ بأَنْ يَسْتَعِيذَ مِن شَرِّ الإنسِ والجِنِّ.
والجِنَّةُ: جَمْعُ جِنِّيٍّ, كمَا يُقَالُ: إِنْسٌ وإِنْسِيٌّ. والهاءُ لتأنِيثِ الجماعَةِ.
وقِيلَ: إنَّ إِبليسَ يُوَسْوِسُ في صدورِ الجنِّ، كما يُوَسْوِسُ في صدورِ الناسِ.
فعلى هذا يكونُ {فِي صُدُورِ النَّاسِ} عامًّا في الجَميعِ. و {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانٌ لما يُوَسْوِسُ في صَدْرِهِ.
وقِيلَ: معنَى: {مِنْ شَرِّ الوَسْوَاسِ}. أيِ: الوَسْوَسَةِ التي تَكُونُ مِنَ الجِنَّةِ والناسِ، وهو حديثُ النفْسِ.
وقد ثَبَتَ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ)). روَاهُ أبو هُرَيْرَةَ، أخْرَجَهُ مسلمٌ). [الجامع لأحكام القرآن: 20/ 263 - 264]
قَالَ ابنُ المُنيِّرِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ (ت: 683هـ): (
والجِنَّةُ الجِنُّ ولَفْظُ (الناسِ) = قيلَ يَعُمُّ الكلَّ في الوَسْوَاسِ
¥