وكذلك قولُه: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} يَقتضِي أنهما مُتقابلانِ فلا يَدْخُلُ أحدُهما في الآخَرِ بِخِلافِ الرجالِ والجِنِّ فإنهما لم يُستَعْمَلا متقابلينِ فلا يُقالُ: الْجِنُّ والرجالُ، كما يقالُ: الجِنُّ والإنْسُ، وحينئذٍ فالآيةُ أَبْيَنُ حُجَّةٍ عليهم في أنَّ الْجِنَّ لا يَدخُلونَ في لفظِ الناسِ؛ لأنه قابَلَ بينَ الْجِنَّةِ والناسِ، فَعُلِمَ أنَّ أحدَهما لا يَدْخُلُ في الآخَرِ.
فالصوابُ القولُ الثاني وهو أنَّ قولَه: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانٌ للذي يُوَسْوِسُ، وأنهم نوعان إنسٌ وجِنٌّ، فالْجِنِّيُّ يُوَسْوِسُ في صدورِ الإنْسِ، والإنسيُّ أيضًا يُوَسْوِسُ إلى الإنسيِّ، فالْمُوَسْوَسُ نوعان: إنسٌ وجِنٌّ، فإنَّ الوَسوسةَ هي الإلقاءُ الْخَفِيُّ في القَلْبِ وهذا مُشْتَرَكٌ بينَ الجِنِّ والإنْسِ، وإن كان إلقاءُ الإنسيِّ ووَسْوَسَتُه إنما هي بِواسِطَةِ الأُذُنِ، والجنِّيُّ لا يَحتاجُ إلى تلك الواسِطَةِ؛ لأنه يَدخُلُ في ابنِ آدمَ ويَجرِي منه مَجرى الدَّمِ، على أنَّ الجِنِّيَّ قد يَتَمَثَّلُ له ويُوَسْوِسُ إليه في أُذُنِه كالإنسيِّ، كما في البخاريِّ، عن عُروةَ، عن عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ تُحَدِّثُ فِي الْعَنَانِ، وَالْعَنَانُ الْغَمَامُ، بِالأَمْرِ يَكُونُ فِي الأَرْضِ فَتَسْتَمِعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتُقِرُّهُا فِي أُذُنِ الْكَاهِنِ كَمَا تُقِرُّ الْقَارُورَةَ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)) فهذه وَسوسةٌ وإلقاءٌ من الشيطانِ بواسِطَةِ الأُذُنِ.
ونظيرُ اشتراكِهما في هذه الوَسوسةِ اشتراكُهما في الوحيِ الشيطانيِّ، قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
فالشيطانُ يُوحِي إلى الإنسِيِّ باطِلَه ويُوحيهِ الإنسُ إلى إنسيٍّ مِثلِه فشياطينُ الإنْسِ والجِنِّ يَشتركان في الوَحْيِ الشيطانيِّ ويَشتركان في الوَسوسةِ.
وعلى هذا فتَزولُ تلك الإشكالاتُ والتَّعَسُّفاتُ التي ارْتَكَبَها أصحابُ القولِ الأوَّلِ. وتَدُلُّ الآيةُ على الاستعاذةِ من شَرِّ نَوْعَي الشياطينِ؛ شياطينِ الإنْسِ والجِنِّ.
وعلى القوْلِ الأوَّلِ إنما تَكونُ الاستعاذةُ من شَرِّ شياطينِ الجِنِّ فقط فتَأَمَّلْهُ، فإنه بَديعٌ جِدًّا). [بدائع الفوائد: 2/ 263 - 266]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): (وقولُه: {الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النَّاسِ}. هل يَخْتَصُّ هذا ببَنِي آدَمَ كما هو الظاهِرُ؟ أو يَعُمُّ بني آدَمَ والجِنَّ؟ فيه قولانِ، ويكونونَ قدْ دَخَلُوا في لفظِ الناسِ تَغْلِيباً.
وقالَ ابنُ جَرِيرٍ: وقد اسْتُعْمِلَ فيهِم {رِجَالٍ مِنَ الجِنِّ}؛ فلا بدْعَ في إِطْلاقِ الناسِ عليهم، وقولُه: {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هل هو تفصيلٌ لقولِه: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}؟ ثُمَّ بَيَّنَهم فقالَ: {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
وهذا يُقَوِّي القولَ الثانِيَ، وقيلَ: قولُه: {مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ} تَفْسِيرٌ للذي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ الناسِ مِن شَيَاطِينِ الإِنْسِ والجِنِّ، كما قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً}). [تفسير القرآن العظيم: 8/ 3912]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْفَيْرُوزَآباَدِيُّ (ت: 817 هـ): (أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ الثِّقَةُ ابْنُ الْمَأْمُونِ الْهَرَوِيُّ قالَ: أَخْبَرَنَا أََبِي، قالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللهِ مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، قالَ: أَخْبَرَنَا عَمَّارُ بْنُ عَبْدِ المَجِيدِ الهَرَوِيُّ، قالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ السَّمَرْقَنْدِيُّ، عن مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنِ الكَلْبِيِّ، عن أَبِي صَالحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ({يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} فِي صُدُورِ الْخَلْقِ). [تنوير المقباس: 604]
¥