يريد والله أعلم أن الغيرة لا تبيح للغيور ما حرم عليه وأنه يلزمه مع غيرته الانقياد لحكم الله ورسوله وأن لا يتعدى حدوده فالله ورسوله أغْيَر ولا خلاف علمته بين العلماء فيمن قتل رجلا ثم ادعى أنه إنما قتله لأنه وجده مع امرأته بين فخذيها ونحو ذلك من وجوه زناه بها ولم يعلم ما ذكر عنه إلا بدعواه أنه لا يقبل منه ما ادعاه وأنه يقتل به إلا أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوا وطئه لها وإيلاجه فيها ويكون مع ذلك محصنا مسلما بالغا أو من يحل دمه بذلك فإن جاء بشهداء يشهدون له بذلك نجا وإلا قُتِل وهذا أمر واضح لو لم يجيء به الخبر لأوجبه النظر لأن الله حرم دماء المسلمين تحريما مطلقا فمن ثبت عليه أنه قتل مسلما فادعى أن المسلم قد كان يجب قتله لم يقبل منه رفعه القصاص عن نفسه حتى يتبين ما ذكر وهكذا كل من لزمه حق لآدمي لم يقبل قوله في المخرج منه إلا ببينة تشهد له بذلك.
" التمهيد " (21/ 256).
وقال ابن القيم رحمه الله:
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: ليس هذا من باب دفع الصائل بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي، وعلى هذا فيجوز له فيما بينه وبين الله تعالى قتل من اعتدى على حريمه سواء كان محصناً أو غير محصنٍ معروفاً بذلك أو غير معروفٍ كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة.
" زاد المعاد " (5/ 406، 407).
وقال رحمه الله:
فلو أذن له في قتله لكان ذلك حُكماً منه بأن دمه هدر في ظاهر الشرع وباطنه، ووقعت المفسدة التي درأها الله بالقصاص، وتهالك الناس في قتل من يريدون قتله في دورهم ويدعون أنهم كانوا يرونهم على حريمهم، فسدَّ الذريعة وحمى المفسدة وصان الدماء، وفي ذلك دليل على أنه لا يقبل قول القاتل ويقاد به في ظاهر الشرع.
" زاد المعاد " (5/ 408).
وقال – في معنى الغيرة في الحديث -:
فلما حلف سعد أنه يقتله ولا ينتظر به الشهود عجب النبي صلى الله عليه وسلم من غيرته وأخبر أنه غيور وأنه صلى الله عليه وسلم أغير منه والله أشد غيرة، وهذا يحتمل معنيين:
أحدهما: إقراره وسكوته على ما حلف عليه سعد أنه جائز له فيما بينه وبين الله ونهيه عن قتله في ظاهر الشرع ولا يناقض أول الحديث آخره.
والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمُنكِر على سعد فقال: " ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم " يعني: أنا أنهاه عن قتله وهو يقول بلى والذي أكرمك بالحق، ثم أخبر عن الحامل له على هذه المخالفة وأنه شدة غيرته ثم قال: " أنا أغير منه والله أغْيَر مني " وقد شرع إقامة الشهداء الأربعة مع شدة غيرته سبحانه فهي مقرونة بحكمة ومصلحة ورحمة وإحسان فالله سبحانه مع شدة غيرته أعلم بمصالح عباده وما شرعه لهم من إقامة الشهود الأربعة دون المبادرة إلى القتل وأنا أغير من سعد وقد نهيته عن قتله.
وقد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين وهو الأليق بكلامه وسياق القصة.
" زاد المعاد " (5/ 408).
وأما إذا ثبتت الشهادة أو اعترف أولياء المقتول فلا قصاص ولا دية، وهو الصواب الذي ثبت عن عمر رضي الله عنه.
قال ابن القيم – رادّاً على من ظن أن في المسألة خلافاً بين الصحابة -:
والذي غرَّه ما رواه سعيد بن منصور في سننه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينا هو يوما يتغدى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطَّخ بدم ووراءه قوم يعدون فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبَنا فقال له عمر رضي الله عنه: ما تقول؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إني ضربتُ بين فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحدٌ فقد قتلتُه، فقال عمر: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب السيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر رضي الله عنه سيفه فهزه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا فعُد.
فهذا ما نقل عن عمر رضي الله عنه.
وأما علي فسئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته.
¥