وثالثها: أن هذه الأشياء إما أن يكون لها حكم أولا يكون، والأول صواب، والثاني باطل بالاتفاق، وإذا كان لها حكم، فالوجوب والكراهة والاستحباب معلومة البطلان بالكلية؛ لم يبق إلا الحل. والحرمة باطلة لانتفاء دليلها نصًا واستنباطًا، لم يبق إلا الحل وهو المطلوب.
إذا ثبت هذا الأصل فنقول: الأصل في الأعيان الطهارة لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الطاهر ما حل ملابسته ومباشرته وحمله في الصلاة. والنجس بخلافه، وأكثر الأدلة السالفة تجمع جميع وجوه الانتفاع بالأشياء: أكلا وشربًا ولبسًا ومسًا وغير ذلك، فثبت دخول الطهارة في الحل، وهو المطلوب، والوجهان الآخران نافلة.
الثاني: أنه إذا ثبت أن الأصل جوازا أكلها وشربها فلأن يكون الأصل ملابستها ومخالطتها الخلق أولى وأحرى، وذلك لأن الطعام يخالط البدن ويمازجه وينبت منه فيصير مادة وعنصرًا له، فإذا كان خبيثًا صار البدن خبيثًا فيستوجب النار؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به). والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. وأما ما يماس البدن ويباشره فيؤثر ـ أىضًا ـ في البدن من ظاهر كتأثير الأخباث في أبداننا وفي ثيابنا المتصلة بأبداننا، لكن تأثيرها دون تأثير المخالط الممازج. فإذا حل مخالطة الشيء وممازجته، فحل ملابسته ومباشرته أولى. وهذا قاطع لا شبهة فيه. وطرد ذلك أن كل ما حرم مباشرته وملابسته، حرم مخالطته وممازجته، ولا ينعكس. فكل نجس محرم الأكل، وليس كل محرم الأكل نجسًا. وهذا في غاية التحقيق.
الوجه الثالث: أن الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة، وأن النجاسات محصاة مستقصاة، وما خرج عن الضبط والحصر فهو طاهر، كما يقولونه فيما ينقض الوضوء ويوجب الغسل وما لا يحل نكاحه وشبه ذلك. فإنه غاية المتقابلات. تجد أحد الجانبين فيها محصورًا مضبوطًا والجانب الآخر مطلق مرسل والله ـ تعالى ـ الهادي للصواب.
الفصل الأول
القول في طهارة الأرواث والأبوال من الدواب والطير التي لم تحرم وعلى ذلك عدة أدلة:
الدليل الأول: أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة. أما الركن الأول من الدليل، فقد ثبت بالبراهين الباهرة والحجج القاهرة. وأما الثاني فنقول: إن المنفي على ضربين: نفي نحصره ونحيط به، كعلمنا بأن السماء ليس فيها شمسان ولا قمران طالعان، وأنه ليس لنا إلا قبلة واحدة، وأن محمدًا لا نبي بعده، بل علمنا أنه لا إله إلا الله، وأن ما ليس بين اللوحين ليس بقرآن، وأنه لم يفرض إلا صوم شهر رمضان، وعلم الإنسان أنه ليس في دراهم قبل ولا تغير، وأنه لم يطعم، وأنه البارحة لم ينم، وغير ذلك مما يطول عده، فهذا كله نفي مستيقن يبين خطأ من يطلق قوله: لا تقبل الشهادة على النفي.
الثاني: ما لا يستيقن نفيه وعدمه. ثم منه ما يغلب على القلب ويقوى في الرأى، ومنه ما لا يكون كذلك. فإذا رأينا حكمًا منوطًا بنفي من الصنف الثاني، فالمطلوب أن نرى النفي ويغلب على قلوبنا.
والاستدلال بالاستصحاب وبعدم المخصص وعدم الموجب لحمل الكلام على مجازه هو من هذا القسم. فإذا بحثنا وسبرنا عما يدل على نجاسة هذه الأعيان والناس يتكلمون فيها منذ مئات من السنين فلم نجد فيها إلا أدلة معروفة. شهدنا شهادة جازمة في هذا المقام بحسب علمنا ألا دليل إلا ذلك.
فنقول: الاستدلال بهذا الدليل إنما يتم بفسخ ما استدل به على النجاسة، ونقض ذلك. وقد احتج لذلك بمسلكين: أثرى ونظرى:
أما الأثري: فحديث ابن عباس المخرج في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير. أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) وروى: (لا يستنزه ـ) والبول اسم جنس محلى باللام، فيوجب العموم. كالإنسان في قوله: {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3]، فإن المرتضى أن أسماء الأجناس تقتضي من العموم ما تقتضيه أسماء الجموع، لست أقول: الجنس الذي يفصل بين واحده وكثيره الهاء ـ كالتمر، والبر، والشجر ـ فإن حكم تلك حكم الجموع بلا ريب. وإنما أقول: اسم الجنس المفرد الدال على الشيء، وعلى ما أشبهه ـ كإنسان ورجل، وفرس، وثوب،
¥