ورابعها: أن المرض يكون له أدوية شتى، فإذا لم يندفع بالمحرم، انتقل إلى المحلل، ومحال ألا يكون له في الحلال شفاء أو دواء، والذي أنزل الداء، أنزل لكل داء دواء إلا الموت، ولا يجوز أن يكون أدوية الأدواء في القسم المحرم، وهو سبحانه الرؤوف الرحيم. وإلى هذا، الإشارة بالحديث المروي: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، بخلاف المسغبة فإنها ـ وإن اندفعت بأي طعام ـ اتفق، إلا أن الخبيث إنما يباح عند فقد غيره، فإن صورت مثل هذا في الدواء فتلك صورة نادرة؛ لأن المرض أندر من الجوع بكثير، وتعين الدواء المعين وعدم غيره نادر، فلا ينتقض هذا. على أن في الأوجه السالفة غنى.
وخامسها: ـ وفيه فقه الباب ـ: أن الله ـ تعالى ـ جعل خلقه مفتقرين إلى الطعام والغذاء، لا تندفع مجاعتهم ومسغبتهم إلا بنوع الطعام وصنفه فقد هدانا وعلمنا النوع الكاشف للمسغبة المزيل للمخمصة. وأما المرض، فإنه يزيله بأنواع كثيرة من الأسباب: ظاهرة وباطنة، روحانية وجسمانية، فلم يتعين الدواء مزيلاً، ثم الدواء بنوعه لم يتعين لنوع من أنواع الأجسام في إزالة الداء المعين. ثم ذلك النوع المعين يخفي على أكثر الناس، بل على عامتهم دركه ومعرفته الخاصة، المزاولون منهم هذا الفن، أولو الأفهام والعقول، يكون الرجل منهم قد أفنى كثيرًا من عمره في معرفته ذلك، ثم يخفي عليه نوع المرض وحقيقته، ويخفي عليه دواؤه وشفاؤه، ففارقت الأسباب المزيلة للمرض، الأسباب المزيلة للمخمصة في هذه الحقائق البينة وغيرها. فكذلك افترقت أحكامها كما ذكرنا. وبهذا ظهر الجواب عن الأقيسة المذكورة، والقول الجامع فيما يسقط ويباح للحاجة والضرورة ما حضرني الآن.
أما سقوط ما يسقط من القيام والصيام، والاغتسال؛ فلأن منفعة ذلك مستيقنة بخلاف التداوي.
وأيضًا، فإن ترك المأمور به أيسر من فعل المنهي عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم) فانظر كيف أوجب الاجتناب عن كل منهي عنه، وفرق في المأمور به بين المستطاع وغيره، وهذا يكاد يكون دليلاً مستقلاً في المسألة.
وأيضًا، فإن الواجبات من القيام والجمعة والحج، تسقط بأنواع من المشقة التي لا تصلح لاستباحة شيء من المحظورات، وهذا بين بالتأمل.
وأما الحلية، فإنما أبيح الذهب للأنف، وربط الأسنان؛ لأنه اضطرار، وهو يسد الحاجة يقينًا كالأكل في المخمصة.
وأما لبس الحرير للحكة والجرب إن سلم ذلك. فإن الحرير والذهب ليسا محرمين على الإطلاق، فإنهما قد أبيحا لأحد صنفي المكلفين، وأبيح للصنف الآخر بعضهما، وأبيح التجارة فيهما، وإهداؤهما للمشركين. فعُلم أنهما أبيحا لمطلق الحاجة، والحاجة إلى التداوي أقوى من الحاجة إلى تزين النساء، بخلاف المحرمات من النجاسات. وأبيح ـ أيضا ـ لحصول المصلحة في غالب الأمر.
ثم الفرق بين الحرير والطعام: أن باب الطعام يخالف باب اللباس؛ لأن تأثير الطعام في الأبدان، أشد من تأثير اللباس، على ما قد مضي. فالمحرم من الطعام لا يباح إلا للضرورة التي هي المسغبة والمخمصة والمحرم من اللباس، يباح للضرورة وللحاجة -أيضا. هكذا جاءت السنة، ولا جمع بين ما فرق الله بينه. والفرق بين الضرورات والحاجات معلوم في كثير من الشرعيات، وقد حصل الجواب عن كل ما يعارض به في هذه المسألة.
الوجه الثاني: أخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر أيتداوي بها؟ فقال: (إنها داء، وليست بدواء).
فهذا نص في المنع من التداوي بالخمر، ردًا على من أباحه، وسائر المحرمات مثلها قياسًا، خلافًا لمن فرق بينهما، فإن قياس المحرم من الطعام أشبه من الغراب بالغراب، بل الخمر قد كانت مباحة في بعض أيام الإسلام، وقد أباح بعض المسلمين من نوعها الشرب دون الإسكار والميتة والدم بخلاف ذلك.
فإن قيل: الخمر قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها داء وليست بدواء، فلا يجوز أن يقال: هي دواء بخلاف غيرها. وأيضا، ففي إباحة التداوي بها إجازة اصطناعها واعتصارها، وذلك داع إلى شربها. ولذلك اختصت بالحد بها دون غيرها من المطاعم الخبيثة لقوة محبة الأنفس لها.
¥