فأقول: أما قولك: لا يجوز أن يقال: هي دواء، فهو حق، وكذلك القول في سائر المحرمات على ما دل عليه الحديث الصحيح (إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام) ثم ماذا تريد بهذا؟ أتريد أن الله لم يخلق فيها قوة طبيعية من السخونة وغيرها؟ جرت العادة في الكفار والفساق أنه يندفع بها بعض الأدواء الباردة، كسائر القوي والطبائع التي أودعها جميع الأدوية من الأجسام، أم تريد شيئًا آخر؟ فإن أردت الأول، فهو باطل بالقضايا المجربة التي تواطأت عليها الأمم، وجرت عند كثير من الناس مجري الضروريات، بل هو رد لما يشاهد ويعاين. بل قد قيل: إنه رد للقرآن؛ لقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]، ولعل هذا في الخمر أظهر من جميع المقالات المعلومة من طيب الأبدان.
وإن أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها داء للنفوس والقلوب والعقول -وهي أم الخبائث- والنفس والقلب هو الملك المطلوب صلاحه وكماله، وإنما البدن آلة له، وهو تابع له مطيع له طاعة الملائكة ربها، فإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد القلب فسد البدن كله فالخمر هي داء ومرض للقلب مفسد له، مضعضع لأفضل خواصه الذي هو العقل والعلم، وإذا فسد القلب، فسد البدن كله، كما جاءت به السنة، فتصير داء للبدن من هذا الوجه بواسطة كونها داء للقلب. وكذلك جميع الأموال المغصوبة والمسروقة فإنه ربما صلح عليها البدن ونبت وسمن لكن يفسد عليها القلب فيفسد البدن بفساده.
وأما المصلحة التي فيها، فإنها منفعة للبدن فقط، ونفعها متاع قليل فهي ـ وإن أصلحت شيئا يسيرًا ـ فهي في جنب ما تفسده كَلاَ إصلاح وهذا بعينه معني قوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، فهذا لعمري شأن جميع المحرمات. فإن فيها من القوة الخبيثة التي تؤثر في القلب، ثم البدن في الدنيا والآخرة ما يربي على ما فيها من منفعة قليلة تكون في البدن وحده في الدنيا خاصة.
على أنا ـ وإن لم نعلم جهة المفسدة في المحرمات- فإنا نقطع أن فيها من المفاسد ما يربي على ما نظنه من المصالح. فافهم هذا فإن به يظهر فقه المسألة وسرها.
وأما إفضاؤه إلى اعتصارها، فليس بشيء؛ لأنه يمكن أخذها من أهل الكتاب على أنه يحرم اعتصارها، وإنما القول إذا كانت موجودة أن هذا منتقض بإطفاء الحرق بها، ودفع الغصة إذا لم يوجد غيرها.
وأما اختصاصها بالحد، فإن الحسن البصري يوجب الحد في الميتة ـ أيضًا ـ والدم ولحم الخنزير، لكن الفرق أن في النفوس داعيًا طبيعيًا وباعثًا إراديًا إلى الخمر، فنصب رادع شرعي وزاجر دنيوي ـ أيضا ـ ليتقابلا، ويكون مدعاة إلى قلة شربها، وليس كذلك غيرها مما ليس في النفوس إليه كثير ميل، ولا عظيم طلب.
الوجه الثالث: ما روي حسان بن مخارق قال: قالت أم سلمة: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: (ما هذا؟) فقلت: إن بنتي اشتكت فنبذنا لها هذا، فقال: (إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام). رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ـ وفي رواية: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) وصححه بعض الحفاظ وهذا الحديث نص في المسألة.
الوجه الرابع: ما رواه أبو داود في السنن: أن رجلاً وصف له ضفدع يجعلها في دواء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال: (إن نقنقتها تسبيح)، فهذا حيوان محرم ولم يبح للتداوي.
وهو نص في المسألة. ولعل تحريم الضفدع أخف من تحريم الخبائث وغيرها، فإنه أكثر ما قيل فيها: أن نقنقتها تسبيح، فما ظنك بالخنزير والميتة وغير ذلك؟ وهذا كله بين لك استخفافه بطلب الطب واقتضائه وإجرائه مجري الرفق بالمريض وتطييب قلبه، ولهذا قال الصادق المصدوق لرجل: قال له: أنا طبيب، قال: (أنت رفيق والله الطبيب).
الوجه الخامس: ما روي ـ أيضًا ـ في سننه ـ يعني: أبا داود ـ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدواء الخبيث، وهو نص جامع مانع، وهو صورة الفتوي في المسألة.
¥