أخي الكريم .. روت أمنا عائشة رضي الله عنها–كما في البخاري وغيره-: أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها.
ظاهر الحديث أن الناس أصبحت فتحدثت فصلوا معه في الليلة الثانية، وهذا ما جاء عند البيهقي في الكبرى (2/ 493):" فأصبح الناس فتحدثوا بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة الثانية فصلى فصلوا معه .. "، ولهذا قال أبو الوليد الباجي (المنتقى 1/ 205): " قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس يدل آخر الحديث على أن صلاته نافلة وصلاة الناس معه في الليلة الأولى والثانية تدل على جواز الاجتماع في النافلة في رمضان وفعلهم ذلك في رمضان دون غيره دليل على اختصاصه بهذا المعنى على وجه ما كما خصه بالاعتكاف ويحتمل أن يكون ذلك لفضيلة العمل فيه والله أعلم".
ونحوه في عون المعبود (4/ 172): " فأصبح الناس فتحدثوا (ثم صلى من القابلة) أي الليلة الثانية"
ومن قبله قال العيني في العمدة (7/ 176): " قوله ثم صلى من القابلة أي من الليلة الثانية".
وقد جاء في روية أخرى في الصحيحين فصلى من القابلة فكثر الناس .. والقابلة معناها في لغة العرب الليلة المقبلة لا التي تليها وشواهد هذا في السنة كثيرة لا أظن أن الحاجة تستدعي سرد بعضها! قال ابن حجر (الفتح 3/ 12):" قوله ثم صلى من القابلة أي من الليلة المقبلة وهو لفظ معمر عن بن شهاب عند أحمد" (وانظرالفصل لوصل المدرج 1/ 455).
وإذا قالت العرب السنة القابلة أو العام القابل فلا يعنون به بعد القادم وإنما يريدون القادم، وكذلك إذا قالوا الليلة القابلة فلا يعنون بها بعد القادمة هذا هو الأصل إلاّ إن دلت قرينة صارفة للمعنى عن ظاهره وحيث لايوجد ما يمنع كونهما حادثتين فما المانع على حمل كل حادثة على ظاهرها؟
ثم إن أهل العلم يوردون هذا الحديث مثبتين به ما بوبوه من فضل قيام رمضان بغير تقييد كما في سنن أبي داود والنسائي وموطأ مالك بل قال ابن حبان: " ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن صلاة الناس التراويح في شهر رمضان ليست سنة" وغير هؤلاء جم غفير، وبعضهم يورده في فضل قيام رمضان ثم يورد أحاديث في أبواب أخرى في الليالي الأوتار أو بعضها وظاهر هذا الصنيع تفريقهم بينها، ومن قبيله صنيع صاحب المسند المستخرج على مسلم.
وقد أشار بصراحة إلى تعدد الحوادث ابن حجر في الفتح
فلما ذكر خبر جابر -عند ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وعند غيرهما- قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر فلما كانت القابله اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا يا رسول الله الحديث.
قال في الفتح (3/ 12): "فإن كانت القصه واحدة احتمل أن يكون جابر ممن جاء في الليلة الثالثة".
ثم قال (3/ 13):" ما وقع عند مسلم من حديث أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل فقام حتى كنا رهطا فلما أحس بنا تجوز ثم دخل رحله الحديث والظاهر أن هذا كان في قصه أخرى".
وفي كلام غير هؤلاء ما يفيد بأن الليالي كانت متعاقبة كما سيأتي إن شاء الله.
أما ما نقلته عن ابن عبدالبر وأعدت نقل الزرقاني له فهو اجتهاد يستدل له لابه.
أما ما نقلته عن حاشية القيلوبي وعميرة فيقال موضع الشاهد الذي استدل به قول عائشة رضي الله عنها: (واستمر يصليها في بيته فرادى إلى آخر الشهر)، فما تخريج هذه الزيادة أحسن الله إليكم وقد نعيتم فيما سبق على بعض الفضلاء نقله لأثر صححه بعض أهل العلم ولم يتحقق منه؟
¥