المذهب الثاني: مذهب نفي سماع الأموات مطلقاً، وتأويل الأحاديث التي فيها إثبات السماع.
حيث ذهب هؤلاء إلى إجراء الآيات التي فيها نفي السماع على ظاهرها وعمومها، وقالوا: إن الميت لا يسمع شيئاً من كلام الأحياء، ولا يشعر بهم.
واختلف أصحاب هذا المذهب في الجواب عن الأحاديث التي فيها إثبات السماع على أقوال:
القول الأول: أن ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم - من إسماع قتلى بدر – هو معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد أحياهم الله له حتى سمعوا كلامه، وهذا خاص به دون غيره من الناس.
وهذا رأي: قتادة، والبيهقي (72)، والمازري (73)، وابن عطية، وابن الجوزي (74)، وابن قدامة (75)، والسهيلي (76)، وابن الهمام (77)، والقاضي أبي يعلى (78)، والألباني.
قال قتادة: «أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً وتصغيراً وَنَقِيمَةً وحسرة وندماً». (79)
وقال ابن عطية: «فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم، في أن رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم». (80)
وقال الألباني: «والتحقيق أن الأدلة من الكتاب والسنة على أن الموتى لا يسمعون، وهذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال، كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يُجعل ذلك أصلاً، فيقال إن الموتى يسمعون؛ فإنها قضايا جزئية، لا تُشَكِّل قاعدة كلية، يُعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام».أهـ (81)
أدلة هذا القول:
استدل أصحاب هذا القول على ما ذهبوا إليه بأدلة منها:
الدليل الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» ولم يقل: «لما يُقال»، فدل على أن سماعهم هذا، هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس. (82)
الدليل الثاني: أن الحديث رُوي بلفظ: «وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَيَسْمَعُونَ كَلَامِي» (83)، حيث قيد النبي صلى الله عليه وسلم سماعهم له باللحظة التي ناجاهم فيها، ومفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وفيه تنبيه على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي صلى الله عليه وسلم، وبإسماع الله تعالى إياهم، خرقاً للعادة، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. (84)
الدليل الثالث:أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم على ما كان مستقراً في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون، يدل على ذلك رواية: « .... فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟ وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا» (85)، وقد صرح عمر رضي الله عنه أن الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة، وأنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب فيه، ولذلك أشكل عليهم الأمر، فصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليزيل إشكالهم، فبين لهم حقيقة الأمر، وبهذا يتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة – وفي مقدمتهم عمر – على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم؛ لأنه لم يُنكِرْه عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلق سماع الموتى، ولا أنه صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ولكنه بين لهم ما كان خافياً عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقاً، وأن ذلك أمر خاص مستثنى من الآية، معجزة له صلى الله عليه وسلم. (86)
¥