واعتُرِضَ: بأن هذا التفسير مخالف لما عليه الأكثر من المفسرين؛ لأنهم قالوا: إن المراد بالذين لا يسمعون في الآية: الأصنام؛ لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، وإذا كان المنفي في الآية سماع الجمادات، انتفى الاستدلال بها على نفي سماع الأموات.
وأجيب: بأن الآية قد اختُلِفَ في تفسيرها على القولين المذكورين، والأصح أن المراد بالذين لا يسمعون هم الموتى من الأولياء والصالحين، يدل على ذلك:
1 - قوله تعالى في تمام الآية السابقة: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} والأصنام لا تبعث؛ لأنها جمادات غير مكلفة كما هو معلوم، بخلاف العابدين والمعبودين، فإنهم جميعاً محشورون، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:17 - 18]
2 - وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، ففي التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه: «أن هؤلاء الخمسة أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هلك أولئك وَتَنَسَّخَ العلم عُبِدَتْ» (96). (97)
الدليل الرابع: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» (98)، ووجه الاستدلال من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع سلام المُسَلِّمِين عليه، إذ لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه، وإذ الأمر كذلك فبالأولى أنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيرُه من الموتى أولى وأحرى. (99)
القول الرابع: أن الأصل عدم سماع الأموات؛ لعموم وظاهر الآيات، لكن يستثنى من ذلك ما صح به الدليل ولا يُتجاوزُ به إلى غيره، ومما ورد به الدليل: سماع قتلى بدر من المشركين، وسماع الميت لقرع النعال المشيعين له.
وهذا رأي: الشوكاني، والآلوسي (100)، وذكره أبو العباس القرطبي احتمالاً آخر في الجمع، واختاره أبو عبد الله القرطبي (101)،
قال أبو العباس القرطبي: «لو سلمنا أن الموتى في الآية على حقيقتهم؛ فلا تعارض بينها وبين أن بعض الموتى يسمعون في وقتٍ ما، أو في حالٍ ما، فإن تخصيص العموم ممكن وصحيح إذا وجد المخصص، وقد وجد هنا بدليل هذا الحديث (102)».أهـ (103)
وقال الشوكاني: «وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يُخَصُّ منه إلا ما ورد بدليل، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب بدر، وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا».أهـ (104)
المذهب الثالث: التوقف.
وهذا مذهب ابن عبد البر، حيث أورد الآيات والأحاديث ثم قال: «وهذه أمور لا يُستطاع على تكييفها، وإنما فيها الاتباع والتسليم».أهـ (105)
المبحث الرابع: الترجيح:
الذي يظهر – والله تعالى أعلم – أن الموتى لا يسمعون شيئاً من كلام الأحياء، ولا يشعرون بهم، وأن ذلك عام في كل الأحوال والأوقات، كما دلت عليه الآيات، ويستثنى من ذلك ما ثبت به الحديث الصحيح من أن الميت يسمع قرع نعال مشيعيه بعد انصرافهم من دفنه (106)، وسبب سماعه في هذه الحال، وفي هذا الوقت: أن الروح تعاد للبدن للمساءلة في القبر (107)، فيكون للروح تعلق بالبدن يحصل به السماع، إلا أن هذا التعلق غير مستمر، وغير دائم، وإنما هو في وقت المساءلة فقط.
يدل على هذا الاختيار:
الدليل الأول: ما تقدم من الآيات في سورة النمل، والروم، وفاطر، وهي صريحة في نفي سماع الأموات، وقد تقدم بيان دلالتها على ذلك.
¥