الدليل الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36]، حيث شبه سبحانه الكفار الأحياء بالموتى في عدم السماع، فدل على أن المشبه به، وهم الموتى لا يسمعون أيضاً. قال ابن جرير في تفسير الآية: «والموتى، أي الكفار يبعثهم الله مع الموتى، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتاً، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولاً» (108)
الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20 - 21]، حيث أخبر سبحانه بأن هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله أموات في قبورهم، ولا يشعرون متى يبعثون، والشعور هو الإدراك بالحواس (109)، وإذا كان هؤلاء الأموات لا يشعرون متى يبعثون، ثبت نفي الشعور عنهم، وهذا يستلزم عدم إدراكهم مطلقاً، ويلزم من عدم إدراكهم أن السماع منتفٍ في حقهم؛ لأنه من جملة ما يُشعر به.
الدليل الرابع: أن هذا القول فيه إعمال للآيات والأحاديث معاً، بخلاف القول بإثبات السماع للأموات؛ فإن القائلين به أولوا الآيات ونفوا دلالتها على السماع، وقد تقدم بيان أن ما ذهبوا إليه ضعيف، وأن الآيات صريحة في نفي السماع.
وأما الجواب عن الأحاديث، التي تدل بظاهرها أن الموتى يسمعون، فجوابه: أن هذه الأحاديث على أنواع:
النوع الأول: أحاديث صحيحة، إلا أنها متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: حديث القليب، وحديث السلام عليه صلى الله عليه وسلم، وهذه محمولة على أنها من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته.
النوع الثاني: حديث صحيح، إلا أنه لا يدل على عموم السماع في كل الأحوال والأوقات، وهو حديث سماع الميت لقرع النعال، وقد تقدم الجواب عنه.
النوع الثالث: حديث صحيح، إلا أنه لا يدل على السماع، وهو حديث السلام على الموتى، وقد تقدم أن السلام على الموتى لا يعني بالضرورة أنهم يسمعون.
النوع الرابع: حديث صحيح، إلا أنه موقوف، وهو حديث عمرو بن العاص، وليس فيه شيء مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، والقول بأن له حكم الرفع غير مسلم.
النوع الخامس: أحاديث ضعيفة لا يصح الاستدلال بها، وهي حديث تلقين الميت، وحديث أبي هريرة، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم.
=================
هوامش التوثيق
=================
(1) جيفوا: أي أنتنوا، يقال: جافت الميتة، وجيَّفَت، واجتافت. والجيفة: جثة الميت إذا أنتن. انظر: النهاية في غريب الأثر (1/ 325).
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث (2875).
وقد روى هذا الحديث خمسة من الصحابة غير أنس رضي الله عنه:
الأول: حديث أبي طلحة رضي الله عنه: ولفظه: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ».
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب المغازي، حديث (3976)، ومسلم في الموضع السابق.
الثاني: حديث عمر رضي الله عنه: ولفظه: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا».
أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث (2873).
الثالث: حديث ابن عمر رضي الله عنه: ولفظه: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ».
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب الجنائز، حديث (1370).
الرابع: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ولفظه: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم اليوم لا يجيبون».
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 160). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 91): «رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح».
الخامس: حديث عبد الله بن سيدان، عن أبيه رضي الله عنه: ولفظه: «يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون».
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 165).قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 91): «رواه الطبراني، وعبد الله بن سيدان مجهول».
¥