قال ابن كثير: " قد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم فقال بعضهم هو منسوخ و زعموا إن فيها عتابا للنبي –صلى الله عليه و سلم- كما قال الله تعالى {عفا الله عنك لم أذنت لهم}. و منهم من قال هو منسوخ بنهي الرسول – صلى الله عليه و سلم- و هذا القول فيه نظر ثم صاحبه مطالب ببيان الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ و قال بعضهم كان هذا قبل أن تنزل الحدود، قاله محمد بن سيرين و في هذا نظر فإن قصتهم متأخرة و في رواية جرير بن عبدالله لقصتهم ما يدل على تأخرها فإنه أسلم بعد نزول المائدة، و منهم من قال لم يسمل النبي –صلى الله عليه و سلم - أعينهم إنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين و هذا القول أيضاً فيه نظر فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل و في رواية سمر " [ابن كثير (57/ 2)]
قال أبو حاتم:" المثلة المنهي عنها ليس القود الذي أمر به لأن أخبار العرنيين المراد منها كان القود لا المثلة"
[صحيح ابن حبان،حديث (4473) (324/ 10)
وقال البخاري في صحيحه باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟
وقال ابن حجر: كأنه أشار بذلك إلى تخصيص النهي في قوله "لا يعذب بعذاب الله " إذا لم يكن ذلك على سبيل القصاص [فتح الباري (1447/ 2)]
ومما تقدم نخلُص إلى ما يأتي:
1. أن التمثيل يشرع من جهة المعاملة بالمثل لسمل النبي –صلى الله عليه وسلم – أعين العرنيين و لما جاء في سبب نزول قوله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به 000}
2. أن ادعاء النسخ لحديث العرنيين مردود من جهتين:
ـ أولا ًَََ:- افتقاره إلى التاريخ و قد مر قول ابن كثير أن رواية جرير للحادثة تدل على تأخرها إذ كان إسلامه بعد نزول سورة المائدة و التي فيها قوله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}
ـ ثانيا:- أنه لا يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، فإن قلنا أن النهي عن المثلة للتنزيه فلا تعارض أصلاَََ ًوإن قلنا النهي للتحريم فإنه عام مخصص بكون التمثيل معاقبة بالمثل.
3. أن النبي جمع للعرنيين بين حد الحرابة قطع أيديهم وأرجلهم والقصاص بسمل أعينهم.
4. أن حد الحرابة لا يختص بالمسلمين و قد نص ابن عباس أن آية {إنما جزاء الذين00} نزلت في المشركين فيما رواه عنه أبو داود و النسائي من طريق عكرمة و هو قول طائفة من السلف. و قد روى البخاري عن أبي قلابة صاحب ابن عباس وهو راوي حديث العرنيين أنه قال في العرنيين: فهؤلاء سرقوا و قتلوا و كفروا بعد إيمانهم و حاربوا الله و رسوله. و عليه يتبين أن حد الحرابة لا يختص بالمسلمين بل يقام على الكفار إن فعلوا فعلهم، و لكن ينبغي التنبه إلى أن مجرد محاربة الكفار للمسلمين و استباحتهم دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم ليس هو الموجب بحد ذاته لإقامة حد الحرابة عليهم،إذ كان هذا متحققا ً فيمن حاربهم النبي – صلى الله عليه و سلم- و نهى عن المثلة بمقاتليهم، لكن ثمة معنى آخر مراد لتحقق ذلك فيهم،والمسألة بحاجة لزيادة تحريروالله تعالى أعلم.
5. أن التمثيل بالكفار إن مثلوا بالمسلمين يندب و يتأكد إن كان فيه زيادة في الجهاد أو نكالا ً أو دعاءاً لهم إلى الإيمان أو زجرًا لهم عن العدوان كما أفاده شيخ الإسلام رحمه الله
6. أن تحريم المثلة من حيث الإطلاق ليس محل إجماع بل إن القول بكراهة المثلة من حيث الإطلاق قول قوي متوجَه طائفة من السلف و قد مال إليه النووي رحمه الله،وهذا القول قد يُفهم من أمره –صلى الله عليه و سلم- ابتداءً بتحريق رجلين ثم رجوعه عنه وقوله:" لا ينبغي لبشرأن يعذب بعذاب الله ". [حديث (4018) (4230/ 1)]
لاسيما إذا أضيف إلى ذلك نهي النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الاكتواء بالنار،وقد كوى به معاذ وسئل عنه فرخص فيه وهو كاره.
والجامع بين التحريق بالنار والكي ظاهر إذ كلٌ منهما فيه تعذيب بعذاب الله وهو النار،ويفترقان في كون التحريق لمصلحة التنكيل بالكفار والكي يكون لمصلحة العلاج. ولعل هذا ما فهمه من صح عنه التمثيل في القتل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – (كما سيأتي) والله تعالى أعلم.
· الحالة الثانية: إن كان التمثيل مظنة تحقق المصلحة المعتبرة شرعا:-
¥