لقوله تعالى (فإما منا بعد وإما فداء) والفداء قد يكون بالمال، وقد يكون بالتبادل بين الأسرى من الجانبين، ويمكن أن يكون عن طريق أعمال أو خدمات يقوم بها الأسرى أنفسهم، كما يمكن أن يكون الفداء منافع مُعينة من علمية أو صناعية أو اقتصادية وما شاكل ذلك، تقوم بها الدولة أو الجهة التي ينتمي إليها الأسرى لمصلحة الدولة الإسلامية.
لحديث أنس بن مالك " أن رجالاً من الأنصار، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا، فلنترك لابن اختنا عباس فداءه فقال: لا تدعون منه درهماً" خرّجه البخاري في صحيحه.
وقال العباس رضي الله عنه " فاديتُ نفسي، وفاديتُ عقيلاً" رواه البخاري في صحيحه.
وكل ذلك في غزوة بدر.
وعن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة " خرّجه أبو داود وهو صحيح دون التحديد بالأربعمائة، والثابت عنه صلى الله عليه وسلم فداءهم بمال وفي معجم الطبراني الكبير من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسارى بدر، وكان فداء كل واحد منهم أربعة آلاف " وإسناده لا بأس به.
وفي أسارى بدر فادى النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم على تعليم أولاد الأنصار الكتابة ... " خرّجه أحمد من حديث ابن عباس وهو صحيح.
وفي حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل " خرّجه أحمد وهو صحيح.
وهذا قول جماهير العلماء المالكية والشافعية والحنابلة للأخبار الصحيحة، وأما تحريم الفداء كما هو قول الأحناف لقوله تعالى (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ... ) فغاية ما في الآية تقديم الإثخان على الفداء، وليس فيها أنه لا يجوز الفداء " كما ذكر ذلك الشوكاني وغيره.
والفداء على مال لا يجوز في المشهور عند الأحناف، ولا بأس به عند الحاجة، وأما الفداء على إطلاق أسرى المسلمين عندهم فلا يجوز عند أبي حنيفة، ويجوز عند صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن. والصحيح ما قدمناه في جواز الفداء.
3/ الاسترقاق
ومعنى ذلك أن يُضرب عليهم الرق، يعني يُجعلوا عبيداً، ثم يجري عليهم ما يجري على المملوكين من توزيع أو بيع أو عتق.
والرق في الإسلام هو عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب كفره بخالقه وربه ومن ثَّم لا ينفذ تصرفه، ويجوز بيعه وشراؤه، ومع ذلك لم يسلبه حقه، فأوجب على المالك الرفق والإحسان إليه فيُطعمُ مما يَطعمون ويكسوه مما يلبسون ولا يُكلَّف من العمل ما لا يُطيق وإن كلفّه أعانه.
وبهذا فأصل الاسترقاق إنما هو عن طريق الأسر أو السبي في جهاد الكافرين، وإن لم توجد حروب شرعية، فلا يجوز إنشاء استرقاق وابتداؤه.
ومن رأى الإمام أو صاحب السلطة أن استرقاقه أصلح، استرقه، كما لو رأى أن بقاءه بين أظهر المسلمين يُصلح نفسه، ويُقوِّم اعوجاجهُ ويُكسبه معرفة بطريق الهدى والرشاد، لما يراه من عدل المسلمين معه وحسن عشرتهم وجميل معاملتهم له. وبعد ذلك يبدأ حياة جديدة مع المسلمين، يكون بها أهلاً لكسب الحرية بطريق الكتابة.
أو بطريق العتق في كفارة يمين أو قتل أو ظهار أو نذر أو بطريق العتق ابتغاء وجه الله عز وجل.
فالاسترقاق في الإسلام كأنه مَطْهرة أو حمّام يدخله من اسُترقِّوا من باب، ليغسلوا ما بهم من أوساخ، ثم يخرجوا من باب آخر في نقاء وطهارة وسلامة من الآفات.
ونود الإشارة إلى أن إلغاء الرق عموماً وتحريمه دولياً بضاعة مستوردة من أوربا وأمريكا، اقتبسها العالم الإسلامي كما اقتبس غيرها من القوانين الوضعية، فليتنبّه لهذا بعض المخدوعين.
وهكذا فليس الرق مباح معاملة بالمثل، بمعنى أن الكفار إذا كانوا لا يسترقون أسرانا فلا نسترق أسراهم، بل هو كلام هراء لا يُعرف إلا عن تلامذة المستشرقين أو من اغترّ بهم.
والدليل على جواز استرقاق الأسير، ما جاء في حديث المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كِسرى " أمرنا نبيُّنا رسولَ ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تُؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا عن رسالة ربنا أنه من قُتِل منا صار إلى الجنة في نعيم لم يُر مثلُها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم" خرّجه البخاري في صحيحه.
¥