والظاهر من ملك الرقاب هنا هو استرقاق من لم يُقتل من أهل الحرب في القتال من الذين يقعون في أسر المسلمين وقبضتهم.
ومن الأدلة أيضاً، إجماع الصحابة، نقله ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد، ونقل ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بعض الكفار، وما نقله ابن رشد يقع على الرجال البالغين كما يقع على الصغار، قال "أجمعت الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم" ويُشكل على هذا، قول ابن القيم "ولكن المعروف أنه لم يسترق رجلاً بالغاً" ومعنى قوله أن من استرقهم إنما هم الأطفال والنساء من السبي فقط.
وفي حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث" خرّجه البخاري ومسلم.
والقول بمشروعية استرقاق الأسرى، حين تقتضيه المصلحة، قال به الجمهور من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة، وأطال النَفسَ فيه الشنقيطي ووضّحه في أضواء البيان، عند قوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ... ) سورة الإسراء، وقوله تعالى (فإذا لقيتم الذين كفروا ... ) سورة محمد.
وبكل حال فاسترقاق الأسرى ليس حكماً لازماً في هذه المسألة، بل هو أحد الخيارات المشروعة فيها، وحين تكون المصلحة في عدم اللجوء إلى خيار الاسترقاق في الحكم على الأسرى، فإنه لا يجوز لصاحب السلطة في هذه الحال، أن يحكم باسترقاقهم لمجرد التشهي، كما تقدَّم تقرير ذلك، وإذا كان العلماء يرون أن استرقاق الأسرى في عصر معين أو زمن معين، ليس من المصلحة في شيء، فإن الإسلام يُقرِّر عدم مشروعيته بناءً على هذا الأساس أي على أساس، المصلحة التي جعلها الفقهاء هي المناط في اختيار الحكم على الأسرى من بين عدة أحكام جاء بها الإسلام.
4/ عقد الذمة
ويعني ذلك جعلهم مواطنين في الدولة الإسلامية، كالمسلمين فيها لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، فيصيروا من أهل الذمة الذين هم من رعايا الدولة.
ودليل ذلك أنه إذا جاز أن يُمَّن على الأسير من غير مال، أو بمال يُؤخذ منه مرة واحدة، فلأن يجوز بمال يؤخذ منه في كل سنة أولى، كما في مغني المحتاج، ويستدل لذلك، بما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل الحرب الذين صاروا في حكم الأسرى من البلاد التي اُفتتحت عنوة، بقوة السيف في عهده، فقد تركهم أحراراً وجعلهم من أهل الذمة يدفعون الجزية عن أنفسهم، والخراج عما تحت يدهم من الأراضي الزراعية " أورده أبو يوسف في الخراج.
والقول بمشروعية عقد الذمة لغير المسلمين من أسرى العدو، اتفقت عليها كلمة المذاهب الأربعة، الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
وخلاصة القول، إما أن يكون حقاً لصاحب السلطة يمارسه مختاراً إذا شاء تبعاً للمصلحة كما هو عند الأحناف والمالكية والحنابلة، أو يكون حقاً للأسرى من العدو أنفسهم، يطلبونه فيحرم قتلهم حينئذ كما هو عند الشافعية.
5/ القتل
يجوز لصاحب السلطة أن يحكم على أسرى الكفار من العدو كلهم، أو بعضهم بالقتل، حين تستوجب المصلحة هذا الحكم.
وقد روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب " قصة أُسارى بدر " وفيها " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين ... قال ابن عباس" فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب، قُلت: ولا والله يا رسول الله: ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنا، فنضرب أعناقهم، فتمكِّن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكِّني من فلان "نسيباً لعمر " فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت ... " خرّجه مسلم في صحيحه.
وهذا نص صريح صحيح في جواز قتل الأسرى جميعاً، ليس البعض فقط، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على عمر رأيه في قتلهم، وفي الحديث "فقتلوا يومئذ سبعين ... ".
وعن علي بن أبي طالب أن جبريل عليه السلام هبَطَ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له" خيرهم – يعني أصحابك، في أُسارى بدر، القتل أو الفداء، على أن يُقتَل منهم قابلاً مثلهم، قالوا: الفداء ويُقتل منا "خرّجه الترمذي وغيره وهو صحيح.
وعن ابن عباس "في أُسارى بدر" أن علي بن أبي طالب، قام فقَتلَ عقبة بن أبي معيط قبل الفداء، قتله صبْراً " أورده الهيثمي في المجمع، وقال "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح".
وعن ابن عباس قال قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبْراً، قَتلَ النضر بن الحارث من بني عبد الدار، وقَتلَ طعيمة بن عدي من بني نوفل، وقَتلَ عقبة بن أبي معيط" أورده الهيثمي في المجمع، وقال"رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن نُمير، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات ".
ودلالة النصوص على قتل الأسرى، هو مشروع في حق جميع من يقع في أسر المسلمين من الكفار، وليس مقصوراً فقط، كما يقال، على حالات خاصة يكون أصحابها ممن تقدّمتْ منهم العداوة الشديدة، والإيذاء البليغ بحق الإسلام والمسلمين، وما شاكل ذلك كمن يُطلق عليهم اليوم " مجرمو حرب" إذْ لم يكن جميع أسرى بدر من المشركين على هذه الصفة.
(تنبيه)
فيما يتعلق بالاسترقاق والقتل:
وهو كما لو تم اتفاق الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى على عدم اللجوء إلى استرقاق الأسرى، وبناء على هذا يحرم الاسترقاق، ما دام الاتفاق مصوناً لم يطرأ عليه ما يُلغيه من ناحية شرعية.
وهكذا إذا ارتبط المسلمون بمعاهدة تلزمهم بعدم قتل الأسرى، واتفقوا على ذلك فإن نقض المعاهدة حرام.
¥