الأول: أنه أطلق الثياب ولا قائل بهذا الإطلاق لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة كما تفعله بعض السعوديات كما تقدم فإذن هو يريد منها الجلباب فقط الذي تظهره المرأة من ثيابها إذا خرجت من دارها.
الثاني: أن هذا التفسير ـ وإن تحمس له بعض المتشددين ـ لا ينسجم مع بقية الآية وهي: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ... ) الآية فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية كما هو معروف في الأسلوب العربي: أنهم إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو، فإذا كان الأمر كذلك، فهل الآباء ومن ذكروا معهم في الآية لا يجوز لهم أن ينظروا إلا إلى ثيابهن الباطنة؟! ولذلك قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن (3/ 316):
"وقول ابن مسعود في أن (ما ظهر منها) هو الثياب، لا معنى له، لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة، ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها، فعلمنا أن المراد مواضع الزينة، كما قال في نسق الآية بعد هذا: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن)، والمراد موضع الزينة، فتأويلها على الثياب لا معنى له، إذ كان مما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها").
قال الشيخ أحمد بن محمد الشنقيطي في كتابه مواهب الجليل من أدلة خليل (1/ 148): (من يتشبث بتفسير ابن مسعود: (إلا ما ظهر منها) يعني الملاية يجاب بأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وأنه فسر زينة المرأة بالحلي، قال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)، فتعين حمل زينة المرأة على حليها).
وقال أحد المعاصرين (الإستثناء في الآية يفهم منه قصد الرخصة والتيسير، وظهور الثياب الخارجية كالعباءة والملاية ونحوهما أمر اضطراري لا رخصة فيه ولا تيسير).
قال الزمخشري في الكشاف (الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إليها إذا لم يحل فهو لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ثابت القدم في الحرمة شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها.
وقد رجح هذا التفسير الرازي و البيضاوي وغيرهم وهو قول جماهير المفسرين كما تقدم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تفسير قوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
قال الطبري في تفسيره (ج18/ص120) وليلقين خمرهن وهي جمع خمار على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وقرطهن.
جاء في الدر المنثور (ج6/ص182) وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (وليضربن) وليشددن (بخمرهن على جيوبهن) يعني النحر والصدر فلا يرى منه شيء.
ذكر القرطبي (12/ 230) وغيره (أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة، وهي المقانع، سدلنها من وراء الظهر كما يصنع النبط، فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك. فأمر تعالى بلي الخمار على الجيوب).
قال ابن كثير في تفسيره (ج3/ص284) وقوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن - ثم قال- والخمر جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع.
وفي تفسير الجلالين ص 327 (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع.
ثبت في صحيح البخاري (ج4/ص1782) عن عائشة رضي الله عنها قالت يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها.
روى أبو يعلى في مسنده (ج7/ص466) أن عائشة قالت لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء ما نرى لمنعهن من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها لقد رأيتنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر في مروطنا وننصرف وما يعرف بعضنا وجوه بعض. وسنده صحيح.
قال ابن حزم في المحلى (ج3/ص216) فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك أصلا.
جاء في فتح الباري (ج8/ص490) قال الفراء كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار.
¥