صحيح مراد الله تعالى منها، وما أخطأ فيه المخطئ، أو تعمد فيه الكذب الكاذب،
ومعاذ الله من هذا.
فعلم من ذلك أن حفظ السنة المطهرة من أسباب حفظ القرآن، وصيانتها
صيانة له، ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها ولله الحمد شيء
على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة.
ثالثاً: شبهة عرض السنة النبوية على القرآن الكريم:
احتج خصوم السنة النبوية على عدم حجيتها بأحاديث من وضع الزنادقة،
تدور في نظرهم على وجوب عرض كل ما يروى من أحاديث على كتاب الله
ومقارنتها به، فإن كانت توافق الكتاب فهي حجة يجب التمسك بها، والعمل
بمقتضاها، وإن كانت تخالف الكتاب ولو مخالفة ظاهرية يمكن الجمع بينهما فهي
باطلة مردودة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، وليست من سنته، ومن هذه
الأحاديث التي يستشهدون بها: «إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن
فهو عني، وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني».
وبهذه الشبه قال الزنادقة قديماً كما حكاه الحافظ السيوطي [21]. وقال به بعض
من سبق ذكرهم كالدكتور توفيق صدقي، وجمال البنا، ومحمد نجيب، وإسماعيل
منصور، ومحمود أبو رية، وقاسم أحمد، وأحمد صبحي منصور، في كتبهم
السابق ذكرها.
يقول جمال البنا: «هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن، نحن نحكم
عليها في ضوء القرآن، فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد؛ فتحريم
الجمع بين المرأة مع عمتها أو خالتها، وتحريم لحم الحمر الأهلية، أمور لا نرى
مانعاً فيها، ونجد فيها قياساً سليماً» [22].
الجواب:
أولاً: الحديث الذي استشهدوا به على شبهتهم لا وزن له عند نقاد الحديث
وصيارفته، وتكلم فيه العلماء كلاماً يستلزم أن يكون من أشد الموضوعات أو
الضعيف المردود، ونختار من أقوالهم ما بيَّنه الإمام ابن عبد البر بقوله: «وقد
أمر الله عز وجل بطاعته واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يقيد بشيء، كما أمرنا باتباع
كتاب الله، ولم يقل ما وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ، قال عبد الرحمن
بن مهدي: الزنادقة وضعوا ذلك الحديث، وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله
عليه وسلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم،
وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك،
قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأننا لم نجد في كتاب
الله ألاَّ يقبل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا
كتاب الله يطلق التأسي به، والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على
كل حال» [23].
ومع أن أحاديث عرض السنة على القرآن الكريم لا وزن لها عند أهل العلم،
إلا أن معناها صحيح، وعمل بها المحدِّثون في نقدهم للأحاديث متناً، فجعلوا من
علامات وضع الحديث مخالفته لصريح القرآن الكريم، والسنة النبوية والعقل، إلا
أنهم وضعوا لذلك قيداً وهو: استحالة إمكان الجمع. فإن أمكن الجمع بين ما ظاهره
التعارض مع الكتاب أو السنة أو العقل جمعاً لا تعسف فيه يصار إلى الجمع والقول
بهما معاً ولا تعارض حينئذ، وإن كان وجه الجمع ضعيفاً باتفاق النظار؛ فالجمع
عندهم أوْلى» [24].
وإعمال الأدلة أوْلى من إهمال بعضها، وإلا فلنتعرف على الناسخ والمنسوخ
فنصير إلى الناسخ ونعمل به، ونترك المنسوخ ولا نعمل به، وإلا نرجح بأحد
وجوه الترجيحات المفصلة في كتب الأصول، وعلوم الحديث، والعمل بالأرجح
حينئذ واجب، وهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأساً، إما جهلاً به أو عناداً
منهم كما قال الإمام الشاطبي [25].
ولا أعلم نقلاً عن أحد من العلماء برفض الحديث بمجرد المخالفة الظاهرية مع
القرآن الكريم مع إمكان الجمع، أو التأويل، أو الترجيح، حتى من نقل عنهم
الأصوليون إنكار الترجيح وردوا عليهم إنكارهم، قالوا عند التعارض: يلزم
التخيير أو الوقف، ومعلوم بأن التوقف أوْلى من التعبير بالتساقط؛ لأن خفاء
ترجيح أحد الدليلين على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع
احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه، وفوق كل ذي علم عليم».
مثال على ما سبق:
حديث: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين
¥