تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال ابن الجوزي: ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق، والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره، ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب، وقد فقد التفقد لهم من الأمراء، ومن الإخوان، ولازمهم الفقر، والفضائل ينادي عليها (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)، فلما أجابت مرارة الابتلاء قالت:

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

وقد قال الشافعي رضي الله عنه:

يا نفس ما هو إلا صبر أيام ... كأن مدتها أضغاث أحلام

يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة ... وخل عنها فإن العيش قدامي

ثم أيها العالم الفقير أيسرك ملك سلطان من السلاطين، وإن ما تعلمه من العلم لا تعلمه؟ كلا ما أظن المتيقظ يؤثر هذا، ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن، أو معنى عجيب؛ تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية، فقد حرم من رزق اللذات الحسية ما قد رزقت، وقد شاركتهم في قوام العيش، ولم يبق إلا الفضول التي إذا حذفت لم تكد تضر، ثم هي على المخاطرة في باب الآخرة غالبا، وأنت على السلامة في الأغلب، فتلمح يا أخي عواقب الأحوال، واقمع الكسل المثبط عن الفضائل

، واعلم أن الفضائل لا تنال بالهوينى، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم، فنحن الأغنياء، وهم الفقراء، فإن عمروا دارا سخروا الفعلة، وإن جمعوا مالا فمن وجوه لا تصلح، وكل واحد منهم يخاف أن يقتل، أو يعزل، أو يسم، فعيشهم نغص، العز في الدنيا لنا لا لهم، وإقبال الخلق علينا، وفي الآخرة بيننا، وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى، والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم إذ لا تطلبه إلا نفس شريفة كيف يذل لنذل ما عزه إلا بالدنيا، ولا فخره إلا بالمسكنة.

وقال: ليس في الدنيا عيش إلا لعالم، أو زاهد.

قال: وإذا قنعا بما يكفي لم يتمندل بهما سلطان، ولم يستخدما بالترداد إلى بابه، ولم يحتج الزاهد إلى تصنع، والعيش اللذيذ المنقطع الذي لا يتمندل به، ولا يحمل منة، وما أكثر تفاوت الناس في الفهم.

وقال أيضا في كتابه "السر المصون": مثل المحب للعلم مثل العاشق فإن العاشق يهتم بمحبوبه، ويهيم به، وكذلك المحب للعلم، فكما أن العاشق يبيع أملاكه وينفقها على معشوقه، فيفتقر كذلك محب العلم فإنه يستغرق في طلبه ا لعمر فيذهب ماله، ولا يتفرغ للكسب فإذا احتاج دخل في مداخل صعبة، فمنهم من يتعلق بالسلاطين إما أن يدخل في أشغالهم، أو يطلب منهم، ومن العلماء من يطلب من العوام البخلاء، ومنهم من يرجع عن الجد في العلم إلى الكسب.

وقد كان للعلماء قديما حظ من بيت المال يغنيهم، وكان فيهم من يعيش في ظل سلطان كأبي عبيد مع ابن طاهر، والزجاج مع ابن وهب، ثم كان للعلماء من يراعيهم من الإخوان، حتى قال ابن المبارك: لولا فلان وفلان ما اتجرت، وكان يبعث بالمال إلى الفضيل، وغيرهم، ثم قَلّ ذلك المعنى فصار أقوام من التجار يفتقدون العلماء بالزكاة!، فيندفع الزمان، وقد وصلنا إلى زمان تقطعت فيه هذه الأسباب حتى لو احتاج العالم، فطلب لم يعط، فأولى الناس بحفظ المال، وتنمية اليسير منه والقناعة بقليله توفيرا لحفظ الدين والجاه والسلامة من منن العوام الأراذل العالم الذي فيه دين، وله أنفة من الذل، وقد قال منصور بن المعتمر: إن الرجل ليسقيني شربة من ماء فكأنه دق ضلعا من أضلاعي.

وقد كان أقوام في الجاهلية إذا افتقروا لا يرون سؤال الناس، فيخرجون إلى جبل؛ فيموتون فيه.

فإذا اتفق للعالم عائلة، أو حاجات، وكفت أكف الناس عنه، ومنعته أنفته من الذل هلك.

فالأولى لمثل هذا العالم في هذا الزمان المظلم؛ أن يجتهد في كسب إن قدر عليه، وإن أمكنه نسخ بأجرة، ويدبر ما يحصل له، ويدخر الشيء لحاجة تعرض لئلا يحتاج إلى نذل، وقد يتفق للعالم مرفق، فينفق ولا يدخر عملا بمقتضى الحال ونسيانا لما يجوز وقوعه من انقطاع المرفق وطبعا في نفسه من البذل والكرم، فيخرج ما في يده، فينقطع مرفقه فيلاقي من الضرر أو من الذل ما يكون الموت دونه، فلا ينبغي للعاقل أن يعمل بمقتضى الحال الحاضرة، بل يصور كل ما يجوز وقوعه، وأكثر الناس لا ينظرون في العواقب فكم من مخاصم سب وشتم وطلق فلما أفاق ندم وقد كان يوسف بن أسباط تزهد ودفن كتبه فلم يصبر عن الحديث فحدث من حفظه فغلط فضعفوه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير