تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال المنصور للإمام مالك: «ضع للناس كتابا أحملهم عليه». فحاول مالك أن يعتذر عن المهمة، ولكن المنصور ألحّ: «ضعه فما أحد اليوم أعلم منك». فقال مالك: «إن الناس تفرقوا في البلاد فأفتى كل مِصرٍ (أي بلد) بما رأى: فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم». فقال الخليفة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً. فالعلم علم أهل المدينة». فقال مالك: «إن أهل العراق لا يرضون عِلْمَنَا». فقال المنصور: «يضرب عليه عامتهم بالسيف، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط» (انظر ترتيب المدارك: 30). فصنّف مالك كتابه الشهير: «الموطَّأ». هذا والمعروف أن مالكاً قد وضع الموطأ، وما كان يفرغ منه حتى مات المنصور (ترتيب المدارك 1\ 192)، أي أنه ألفه في أواخر عهد المنصور.

والملاحظ أن جملة المنصور: «أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً» فيها إشارة إلى يأسه منهم لكونهم علويين عقيدة يؤيدون بني هاشم، ولوجود أبي حنيفة والثوري بينهم اللذان لم يكونا على وفاقٍ مع الحكام. بل إن أبا حنيفة متهم بتحريض الناس على الانضمام إلى ثورة "النفس الذكية". وقد أبقاه المنصور في السجن حتى الموت. أما سفيان الثوري فقد حاول المنصور اعتقاله لكنه اختفى. وكان أكثر فقهاء أهل العراق معارضين للمنصور. ولأجل ذلك نرى المنصور يولي مالكاً عناية خاصة، ويطلب منه أن يكتب الموطأ، ويقول له في خبر آخر: «لنحمل الناس –إن شاء اللّه– على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا سواها». وقال له (كما في تذكرة الحفاظ 1\ 290): «لئن بقيتُ، لأكتبنّ قولك كما تُكتب المصاحف، ولأبعثنّ به إلى الآفاق فأحملهم عليه».

ومما شجّع العباسيين على نشر مذهب مالك، أنه كان يرى مساواة علي t لسائر الناس، فكان يقول بأن أفضل الأمّة هم أبو بكر وعمر وعثمان ثم يقف ويقول: «هنا يتساوى الناس» (انظر: ترتيب المدارك ـ ترجمة مالك). وكان في هذا الرأي تبعاً لابن عمر t في الحديث الصحيح المرفوع الذي رواه حيث قال: «كنا نقول على عهد رسول الله r: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت». يعني فلا نفاضل. وكانت المدينة قد ثارت زمن المنصور مطالبة بالحكم لأحد سلالة علي t المسمى بالنفس الذكية. وبذلك كانت الدولة العباسية مضطرة لإظهار هذه الرأي، ومحتاجة لنشره.

لكن المنصور توفي فور انتهاء مالك من كتابه. فجاء ولده المهدي من بعده ليكمل نفس الخطة. جاء في سير أعلام النبلاء (8\ 78): عن إبراهيم بن حماد الزهري، قال: سمعت مالكاً يقول: قال لي المهدي: «ضع يا أبا عبد الله كتاباً أحمِلُ الأُمّة عليه». فقلت: «يا أمير المؤمنين، أما هذا الصقع –وأشرتُ إلى المغرب– فقد كفيته. وأما الشام ففيهم من قد عَلِمت –يعني الأوزاعي–. وأما العراق فهم أهل العراق». يشير إلى تمكنه من فرض مذهبه في الحجاز وإفريقيا، وعجزه عن فرضه في الشام، لوجود إمامها الأوزاعي، وعجزه عن فرضه في العراق، لشدة كراهية العراقيين لمذهبه. وهنا اقتنع العباسيون بضرورة وجود مفتي ثاني عراقي موالٍ لهم، فكان اختيارهم لأبي يوسف، كما سيمر.

وروى أبو نعيم في "الحلية" (كما في كشف الظنون 2\ 1908) أن هارون الرشيد أراد أن يعلّق الموطّأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه! وجاء في مفتاح السعادة (2\ 87): لما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: «ينبغي أن تخرج معي، فإني عزمت أن احمل الناس على الموطّأ كما حمل عثمان الناس على القرآن». وهي في حلية الأولياء (6\ 331) لكن ذكر فيها المأمون بدلاً من الرشيد، وهو خطأ، والأول أصح.

فالخلفاء رغم جهودهم المتواصلة لم يتمكنوا من احتواء الإمامين سفيان الثوري وأبي حنيفة. أما الإمام مالك فقد تعاون مع السلطة ودخل في سلكها بعد الفتنة والإطاحة بثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم، فدوّن لها الموطأ. ونحن نعلم بأن الإمام مالكاً –وقبل توجُّه الحكومة إليه– لم تكن له تلك المكانة. بل إن والده أنس بن مالك بن أبي عامر لم يكن معروفاً عند العلماء، ولم يفصح التاريخ بشيء من حياته ولا تاريخ وفاته. بل كل ما كان يقال عن مالك بأنه أخو النضر المقرئ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير