تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ونقل أبو بكر الصنعاني: أتينا مالك بن أنس فحدثنا ربيعة الرأي –وهو أُستاذ مالك ومعلمه– فكنا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: «ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟». فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف يُحْظَى بِكَ مالِكُ، ولم تُحظَ أنت بنفسك؟ فقال: «أما علمتم أن مثقالاً من دولة، خيرٌ من حِمل علم». انظر: طبقات الفقهاء لأبي إسحاق (ص54)، و تاريخ بغداد (8\ 424). وفي هذا النص إشارة إلى دور السياسة والحكومة في ترسيخ المذاهب وتقديم المفضول مع وجود الفاضل. وقد جاء في تاريخ بغداد (8\ 424) أن أبا العباس أمر لربيعة الرأي بجائزة فرفض أن يقبلها، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية فامتنع عن قبولها. وجاء في صفوة الصفوة (2\ 151) أن الخليفة السفاح عرض عليه القضاء فأبى. فهذا سبب أُفول نجم ربيعة، وبروز تلميذه مالك الأقل علماً منه. لكن الحكام تمكنوا –بمرور الأيام– من احتواء نهج الإمام أبي حنيفة النعمان، بتقريبهم لأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللؤلؤي، وإناطة القضاء والإفتاء بهم. وكان ذلك بالطبع بعد وفاة شيخهم النعمان.

واتخاذ هذا الموقف من قِبَلِ مالك لمصالح الحكام، جعل أُستاذه ربيعة الرأي يبتعد عنه ويكرهه، لأنه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم. فلذلك هجر الناس –تبعاً للحكومة– ربيعة الرأي، والتفوا حول مالك. فاستجاب مالك لطلب المنصور، وألف "الموطأ" مع علمه بأن أهل العراق لا يستجيبون لما كتبه، لكن المنصور طمأنه بأنه سيحملهم عليها بالقوة والسلطان! فصار "الموطأ" دستور الحكومة، وأول كتاب دون في الحديث للدولة العباسية. وروى أن القزاز قرأ الموطأ على مالك ليعلمه للرشيد ويبينه. وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك. واشتهر عن الرشيد أنه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه.

وقد ثبت في التاريخ أن السلطة حصرت الإفتاء أيام الموسم بمالك. وجاء عن مالك انه كان يعترض على من يخالف رأيه وإجماع أهل المدينة (المزعوم)! فقد جاء في كتابه إلى الليث بن سعد (كما في ترتيب المدارك 1\ 36): «اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة، مخالفه لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه ... ». قال الدهلوي في "حجة الله البالغة" (1\ 151): «فأي مذهب كان أصحابه مشهورين واُسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض، لم يزل ينتشر كل حين. وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين». والمنصور بتقريبه مالكاً وإعطائه المكانة العليا، ومحاولة توحيد الحديث والفقه على يده، قد قلّل من نفوذ الآخرين. ومنذ أواخر عهد المنصور وحتى أواخر عهد الرشيد تمكنت الحكومة من السيطرة على الاتجاهين: فقه العراق وفقه الحجاز، وذلك بتقريبهم أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني في بغداد وتقليدهم منصب القضاء، ووجود مالك في المدينة من قبل في ركابهم.

وبعد لقاء المنصور بمالك، أصبح مالك بعد ذلك يعد من رجالات الخليفة، حتى أصبح الولاة يخشونه بعدما أصبح أمْر عزلهم على يد مالك سهلاً. حتى أن المنصور قال له: «إن رابك ريبٌ (شكٌّ) من عامل المدينة أو مكة أو عمال (أي ولاة) الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك، أو سواء أو شر بالرعية فاكتب إلي أنزل بهم ما يستحقونه». و استمر تعظيم مالك في أواخر حكم الخليفة المنصور. وفي عهد الخليفة المهدي والرشيد أصبح لمالك سلطة تنفيذية يستطيع ضرب وسجن من يشاء (انظر مناقب مالك للزاوي ص30). وكان مالك قد أفتى بجواز ضرب المتَّهم، فلقي أثر تلك الفتوى الاستحسان لدى الخلفاء العباسيين، وعُرف ذلك فيما بعد بالمصالح المرسلة في الفقه المالكي. وكان مالك يعمل جولات تفقدية في السجون ويصدر الأوامر بالضرب والقطع والصلب (انظر كتاب مالك بن أنس لأمين الخولي ص139).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير