تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وبذلك صار ذا منزلة ومكانة في الدولة، وقد اعتنى به المنصور وغيره من خلفاء بني العباس، حتى أنّ المنادي كان يهتف أيام الحجّ أنّ: «لا يُفتي الناس إلاّ مالك بن أنس، وابن الماجِشون». وقد رووا عن ابن وهب، قال: حججت سنة ثمان وأربعين ومئة (148 هـ، أي في آخر خلافة المنصور) وصائح يصيح: «لا يفتي الناس إلاّ مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة». وقد ساعد ذلك في انتشار مذهب مالك، واتساع دائرته، خاصة في شمال إفريقيا (القيروان) حيث لم يكن له منافس. ثم منها انتشر فيما بعد إلى إفريقيا الغربية والوسطى. وكان الناس يأتون من إفريقيا للحج، فلا يجدون فقيهاً تجيز له الدولة الفتوى إلا مالكاً، فأخذوا مذهبه. بل انتشر في مصر كذلك بعد وفاة إمامها الليث، حيث ساهم تلامذة مالك في إتلاف كتبه وتضييع فقهه، رغم أنه كان أفقه من مالك، كما نص الشافعي. أما في العراق، فقد وصل مذهبه إلى بغداد والبصرة، لكنه كان يواجه منافسة قوية من فقهاء العراق، رغم محاولة فرضه بالقوة. وكذلك في الشام جوبه بمذهب الإمام الأوزاعي.

قال العلامة ابن خلدون المالكي في "مقدمته" الشهيرة (ص449): «وأما مالك رحمه الله تعالى، فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم (كالبصرة وبعض أطراف الجزيرة). إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق. ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا عن الأخذ عن علماء المدينة يومئذ. وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلميذه من بعده. فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه، دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته. وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضّاً عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب». ويقصد بذلك أن المذهب المالكي كان مجرد أسئلة وأجوبة مختصرة دون أدلة ومناظرات وردود على الخصوم. ولم تكن له كتب أصول، وإنما كُتبت بعد عصور من وفاة الإمام مالك.

وقد انتشر مذهب مالك –بعد وفاته– في الأندلس على يد يحيى بن يحيى بن أبي عيسى. وكان يحيى هذا مكيناً عند السلطان (هشام بن عبد الرحمن الداخل) وكان يختار للقضاء من هم على مذهبه، فأقبل الناس إليه. وتوفي بقرطبة سنة (234 هـ). وبذلك تم بالقوة استبدال مذهب الأوزاعي في الأندلس بمذهب مالك، مع منع المذاهب الأخرى. وبذلك نفهم سبب المعارضة الشديدة لابن حزم الذي حاول –عبثاً– تغيير التعصب و الجمود الفكري عند المالكية في الأندلس.

يقول ابن حزم كما في "نفح الطيب" (2\ 6): «مذهبان انتشرا –في بدء أمرهما– بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف، كانت القُضاة من قِبَلِهِ من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية. فكان لا يولّي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه. ومذهب مالك –عندنا بالأندلس–. فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة. وكان لا يلي قاضٍ في أقطار بلاد الأندلس، إلا بمشورته واختياره. ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه! والناس سُرّاعٌ إلى الدنيا. فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به ... ».

وسبب تَبَنّي حاكم الأندلس لمذهب مالك، هو أن مالكاً سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس، فوصف له سيرته، فأعجبت مالكاً. فقال للأندلسي: «نسأل الله تعالى أن يُزيِّنَ حَرَمَنا بملِكِكُم». فبلغ هذا ملك الأندلس، فحمل الناس على مذهب الإمام مالك وترك مذهب الإمام الأوزاعي. وانظر نفح الطيب (3\ 239).

وبذلك أصبح مذهب الإمام مالك، هو المذهب الرسمي للدولة الأموية في الأندلس. وما كانوا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أو عالم، بالفتيا أو إلقاء الدروس، إن لم يكن من أتباع الإمام مالك. ولم يسمحوا لمذهب غيره بالوجود في الأندلس، كما فرض العباسيون في المشرق مذهب الإمام أبي حنيفة. كما أن مذهب مالك، اصطدم في القيروان بمذهب أبي حنيفة أيام الرشيد، ودار صراع بين المذهبين. حتى جاء العبيديون الرافضة فاستولوا على إفريقيا. وبعد أن استقل عنهم المعز بن باديس، قضى على المذهب الحنفي، وفرض المذهب الحنفي فقط. قال المؤرخ ابن خلكان

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير