تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كما في "وفيات الأعيان" (5\ 233): «وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه بإفريقية أظهر المذاهب. فحمل المعز بن باديس الصنهاجي جميع أهل المغرب على التمسك بمذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وحسم مادة الخلاف في المذاهب. واستمر الحال في ذلك إلى الآن». وكذلك تبنى المرابطون في موريتانيا مذهب الإمام مالك لأنهم تلقوا العلم من مشايخ القيروان (بسبب قربها الجغرافي)، ونشروا مذهبه في إفريقيا الوسطى وإفريقيا الغربية.

لم يكن مالك في حقيقة الأمر صاحب مذهب مؤسس على قواعد واضحة، وإنما كان شيخاً يفتي، ثم تحول في أواخر حياته إلى رجل تنفيذي في الدولة العباسية. وبالمفهوم الحديث يمكن القول أنه كان وزيراً للعدل والشئون الدينية، لكن تلامذته هم الذين أسسوا المذهب المالكي بعد وفاته، كما حدث في المذهب الحنفي.

غير أن بعض معاصري الإمام مالك عارضوه معارضة عنيفة. وخالفه ونقده بعض أصحابه، منهم الإمام الليث بن سعد فقيه مصر، وتلميذه الإمام الشافعي (في كتاب مشهور) حتى قال عنه أنه: «يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل». ولقد أرسل إليه صاحبه الليث بن سعد رسالة طويلة، ذكّرَهُ فيها بأن عمل المدينة لم يعُد سنّةً بعد، ولا يمكن أتباعه بعد عصر الرسول r والخلفاء الراشدين. فالصحابة خرجوا من المدينة بعد مقتل عمر، وتفرقوا في الأمصار، وبثوا فيها فقههم. لقد كان أوائل أهل المدينة في زمن الرسول r هم خير الأوائل، أما أواخرهم في زمن مالك، فلم يعودوا كذلك بعد.

وكان إسلوب مالك في الإفتاء بأن يجيب بنعم أو لا، حلال أو حرام. ولم يكن يذكر أدلة على أقواله. قال أبو مصعب (أحد رواة الموطأ) عن مالك: «كان يقول: "لا"، و "نعم"، ولا يُقال له: "من أين قلت ذا؟ "». بل كثيراً ما يذكر الحديث الصحيح في موطأه ثم يعلن بصراحة رفضه العمل به، دون أن يُبيّن مبرره في ذلك. وهذا مما أثار عليه نقمة بعض أهل الحديث، بما فيهم ابن أبي ذئب (أحد كبار فقهاء المدينة) وأفتى فيه الفتوى التي نقلها وأيدها الإمام أحمد بن حنبل، كما سبق ذكره.

وكان مالك إذا سُئِل سؤالاً لم يعجبه، يقوم بطرد السائل. مما نشر الخوف في مجلسه، وأكسبه هيبة كبيرة، فلا يجرئ أحد على سؤاله أو مناقشته. قال الذهبي: «كان رجلاً مهيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع الصوت. وكان الغرباء يسألونه عن الحديث فلا يجيب إلا في الحديث بعد الحديث ... كان له كاتب قد نسخ كتبه –يقال له حبيب– يقرأ للجماعة. فليس أحد ممن يحضره، يدنو ولا ينظر في كتابه ولا يستفهم هيبة لمالك».

وهذا انسحب بعده على تلامذته. فتراهم يكرهون المناظرة ولا يعرفون إيراد الأدلة، إلا بعض العراقيين منهم (أو من درس عليهم) فقد اضطروا لذلك تبعاً لبيئة العراق (كعبد الوهاب والباقلاني). لكن أتباع المدرسة العراقية المالكية هم قلة انقرضت، وصار المذهب المالكي (إجمالاً) مذهب غرب إفريقيا فحسب، ولم يعد هناك مالكية مشارقة (والنادر لا حكم له). فالسمة الغالبة للمالكية، قلة النظر في الأدلة وكراهة المناظرات مع الخصوم. فلما أتاهم ابن حزم وناظر كبرائهم في الأندلس والمغرب، وطالبهم بالأدلة من الكتاب والسنة على آراء مالك، ما استطاعوا أن يجدوا أدلة. ويصف ذلك الوضع بدقة القاضي المالكي الإشبيلي أبو بكر بن العربي في كتابه "القواصم والعواصم"، فيقول عن ابن حزم: «واتفق كونه بين قومٍ لا بصر لهم إلا بالمسائل. فإذا طالبهم بالدليل كاعوا! فيتضاحك مع أصحابه منهم». وبقي هذا الوضع إلى اليوم. وهذا واضح في ما كتب على مختصر خليل ومتن ابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد، وهذه المتون الثلاثة هي العمدة عند المتأخرين في بلاد المغرب. فلما حاول الدكتور وهبة الزحيلي كتابة موسوعته الفقهية، فوجئ بعدد كبير من مسائل المالكية ليس له دليل إلا "قال مالك"!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير